وَالشَّيْءُ لَا يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ، فَلَا يُسْتَفَادُ بِمُطْلَقِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ مِثْلُهُ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْوَكِيلُ التَّوْكِيلَ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ كَذَا هَذَا.

(وَأَمَّا) الشَّرِكَةُ فَهِيَ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْلِكَهَا الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهَا أَعَمُّ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، وَالشَّيْءُ لَا يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ، فَمَا فَوْقَهُ أَوْلَى.

(وَأَمَّا) الْخَلْطُ فَلِأَنَّهُ يُوجِبُ فِي مَالِ رَبِّ الْمَالِ حَقًّا لِغَيْرِهِ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ ذَلِكَ، فَدَفَعَ الْمُضَارِبُ مَالَ الْمُضَارَبَةِ مُضَارَبَةً إلَى غَيْرِهِ فَنَقُولُ: لَا يَخْلُو مِنْ وُجُوهٍ، إمَّا أَنْ كَانَتْ الْمُضَارَبَتَانِ صَحِيحَتَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ كَانَتَا فَاسِدَتَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا صَحِيحَةً، وَالْأُخْرَى فَاسِدَةً فَإِنْ كَانَتَا صَحِيحَتَيْنِ فَإِنَّ الْمَالَ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ بِمُجَرَّدِ الدَّفْعِ إلَى الثَّانِي، حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِ الثَّانِي قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ يَهْلَكُ أَمَانَةً وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ.

وَقَالَ زُفَرُ: يَصِيرُ مَضْمُونًا بِنَفْسِ الدَّفْعِ، عَمِلَ الثَّانِي أَوْ لَمْ يَعْمَلْ، وَإِذَا هَلَكَ قَبْلَ الْعَمَلِ يَضْمَنُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا.

(وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ إذَا لَمْ يَقُلْ لِلْمُضَارِبِ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ لَمْ يَمْلِكْ دَفْعَ الْمَالِ مُضَارَبَةً إلَى غَيْرِهِ، فَإِذَا دَفَعَ صَارَ بِالدَّفْعِ مُخَالِفًا، فَصَارَ ضَامِنًا كَالْمُودَعِ إذَا أُودِعَ.

(وَلَنَا) أَنَّ مُجَرَّدَ الدَّفْعِ إيدَاعٌ مِنْهُ، وَهُوَ يَمْلِكُ إيدَاعَ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَلَا يَضْمَنُ بِالدَّفْعِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْأَوَّلِ حَتَّى يَعْمَلَ الثَّانِي وَيَرْبَحَ، فَإِذَا عَمِلَ بِهِ وَرَبِحَ كَانَ ضَامِنًا حِينَ رَبِحَ، وَإِنْ عَمِلَ فِي الْمَالِ فَلَمْ يَرْبَحْ حَتَّى ضَاعَ مِنْ يَدِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَ بِهِ الثَّانِي، فَإِذَا عَمِلَ ضَمِنَ، رَبِحَ الثَّانِي أَوْ لَمْ يَرْبَحْ وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ وَالْفَضْلُ بْنُ غَانِمٍ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ: أَنَّ هَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.

(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا عَمِلَ فَقَدْ تَصَرَّفَ فِي الْمَالِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ، فَيَتَعَيَّنُ بِهِ الضَّمَانُ سَوَاءٌ رَبِحَ أَوْ لَمْ يَرْبَحْ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ: لَا سَبِيلَ إلَى التَّضْمِينِ بِالدَّفْعِ؛ لِأَنَّهُ إيدَاعٌ وَإِبْضَاعٌ، وَلَا بِالْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَرْبَحْ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُبْضَعِ، وَالْمُبْضِعُ لَا يَضْمَنُ بِالْعَمَلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَضْمَنَ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ قَوْلٍ، وَمُجَرَّدُ الْقَوْلِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانٌ؛ لَكِنَّهُ إذَا رَبِحَ فَقَدْ ثَبَتَ لَهُ شَرِكَةً فِي الْمَالِ بِإِثْبَاتِ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ، فَصَارَ الْأَوَّلُ مُخَالِفًا فَيَضْمَنُ، كَمَا لَوْ خَلَطَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ بِغَيْرِهِ، أَوْ شَارَكَ بِهِ، وَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ بِالْعَمَلِ وَالرِّبْحِ أَوْ بِنَفْسِ الْعَمَلِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ، فَرَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الثَّانِي.

أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي الْمُودِعِ إذَا أَوْدَعَ، فَظَاهِرٌ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ تَعَدَّى بِالدَّفْعِ، وَالثَّانِي تَعَدَّى بِالْقَبْضِ، فَصَارَ عِنْدَهُمَا كَالْمُودِعِ إذَا أَوْدَعَ.

وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَسْأَلَةِ الْوَدِيعَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ عِنْدَهُ عَلَى الْمُودِعِ الْأَوَّلِ، لَا عَلَى الثَّانِي، وَفِي مَسْأَلَةِ الْمُضَارَبَةِ أَثْبَتَ لَهُ خِيَارَ تَضْمِينِ الثَّانِي، لِأَنَّ الْمُضَارِبَ الثَّانِي يَعْمَلُ فِي الْمَالِ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ، وَهِيَ الرِّبْحُ، فَكَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ، فَجَازَ أَنْ يَضْمَنَ وَالْمُودِعُ الثَّانِي لَمْ يَقْبِضْ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ، بَلْ لِمَنْفَعَةِ الْأَوَّلِ؛ لِحِفْظِ الْوَدِيعَةِ فَلَمْ يَضْمَنْ، فَإِنْ ضَمِنَ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ لَا يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الثَّانِي، وَصَحَّتْ الْمُضَارَبَةُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَالرِّبْحُ عَلَى مَا شَرَطَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ الضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ، فَقَدْ مَلَكَ الْمَضْمُونَ، وَصَارَ كَأَنَّهُ دَفَعَ مَالَ نَفْسِهِ مُضَارَبَةً إلَى الثَّانِي، فَكَانَ الرِّبْحُ عَلَى مَا شَرَطَا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ صَحَّ.

وَإِنْ ضَمِنَ الثَّانِي رَجَعَ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَصَارَ حَاصِلُ الضَّمَانِ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ غَرَّهُ بِالْعَقْدِ، فَصَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا ضَمِنَ، كَمُودِعِ الْغَاصِبِ، وَهُوَ ضَمَانُ كَفَالَةٍ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ الْتَزَمَ لَهُ سَلَامَةَ الْمَقْبُوضِ عَنْ الضَّمَانِ، وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ، وَهُوَ مَا إذَا غَصَبَ رَجُلٌ شَيْئًا فَرَهَنَهُ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَاخْتَارَ الْمَالِكُ تَضْمِينَ الْمُرْتَهِنِ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا ضَمِنَ، وَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الرَّهْنِ.

(وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ قَبْضَ الْمَرْهُونِ شَرْطُ صِحَّةِ الرَّهْنِ، وَلَمَّا ضَمِنَ الْمُرْتَهِنُ تَبَيَّنَ أَنَّ قَبْضَهُ لَمْ يَصِحَّ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الرَّهْنَ لَمْ يَصِحَّ، إذْ لَا صِحَّةَ لَهُ بِدُونِ الْقَبْضِ، فَأَمَّا فِي الْمُضَارَبَةِ فَيَضْمَنُ الثَّانِي إبْطَالَ الْقَبْضِ بَعْدَ وُجُودِهِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ عَقْدٌ جَائِزٌ فَكَانَ لِبَقَائِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ، كَأَنَّهُ ابْتَدَأَ الْعَقْدَ بَعْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ، فَكَانَ التَّضْمِينُ إبْطَالَ الْقَبْضِ بَعْدَ وُجُودِهِ، وَذَلِكَ لَا يُبْطِلُ الْمُضَارَبَةَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضَارِبَ لَوْ بَاعَ الْمَالَ مِنْ رَبِّ الْمَالِ لَا تَبْطُلُ الْمُضَارَبَةُ وَإِنْ بَطَلَ قَبَضَهُ وَلَوْ رَدَّ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ عَلَى الرَّاهِنِ يَبْطُلُ الرَّهْنُ لِذَلِكَ افْتَرَقَا وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَطِيبُ الرِّبْحُ لِلْأَسْفَلِ، وَلَا يَطِيبُ لِلْأَعْلَى عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَسْفَلِ بِعَمَلِهِ، وَلَا خَطَرَ فِي عَمَلِهِ، فَيَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ، فَأَمَّا الْأَعْلَى

طور بواسطة نورين ميديا © 2015