بِاَللَّهِ - تَعَالَى - مَا يَعْلَمُ أَنَّ الطَّالِبَ اسْتَوْفَى الدَّيْنَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْوَارِثَ مُدَّعًى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْغَرِيمَ يَدَّعِي عَلَيْهِ بُطْلَانَ حَقِّهِ فِي الِاسْتِيفَاءِ الَّذِي هُوَ حَقُّهُ، فَلَمْ يَكُنِ اسْتِحْلَافُهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْ الْمُوَرِّثِ إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ.
وَكُلُّ مَنْ يُسْتَحْلَفُ عَلَى فِعْلٍ بَاشَرَهُ غَيْرُهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَى الْعِلْمِ لَا الْبَتِّ؛ لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ.
فَإِنْ أَقَامَ الْغَرِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْإِيفَاءِ سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَعِنْدَهُمَا لَا تُسْمَعُ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ هَلْ يَكُونُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ فِيهِ؟ عِنْدَهُ يَكُونُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَكُونُ لِمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا أَقَامَ الْغَرِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَعْطَى الطَّالِبَ بِالدَّرَاهِمِ الدَّنَانِيرَ أَوْ بَاعَهُ بِهَا عَرَضًا فَبَيِّنَتُهُ مَسْمُوعَةٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ؛ لِأَنَّ إيفَاءَ الدَّيْنِ بِطَرِيقَيْ الْمُبَادَلَةِ وَالْمُقَاصَّةِ، وَيَسْتَوِي فِيهِمَا الْجِنْسُ وَخِلَافُ الْجِنْسِ فَكَانَ الْخِلَافُ فِي الْكُلِّ ثَابِتًا.
(وَأَمَّا) : الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ فَالتَّوْكِيلُ بِالْبَيْعِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا، فَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا يُرَاعَى فِيهِ الْقَيْدُ بِالْإِجْمَاعِ، حَتَّى إنَّهُ إذَا خَالَفَ قَيْدَهُ لَا يَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَلَكِنْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ خِلَافُهُ إلَى خَيْرٍ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْوَكِيلَ يَتَصَرَّفُ بِوِلَايَةٍ مُسْتَفَادَةٍ مِنْ قِبَلِ الْمُوَكِّلِ، فَيَلِي مِنْ التَّصَرُّفِ قَدْرَ مَا وَلَّاهُ، وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ إلَى خَيْرٍ فَإِنَّمَا نَفَذَ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ خِلَافًا صُورَةً فَهُوَ وِفَاقٌ مَعْنًى؛ لِأَنَّهُ آمِرٌ بِهِ دَلَالَةً فَكَانَ مُتَصَرِّفًا بِتَوْلِيَةِ الْمُوَكِّلِ، فَنَفَذَ بَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا قَالَ: بِعْ عَبْدِي هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَبَاعَهُ بِأَقَلَّ مِنْ الْأَلْفِ لَا يَنْفُذُ، وَكَذَا إذَا بَاعَهُ بِغَيْرِ الدَّرَاهِمِ، لَا يَنْفُذُ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ خِلَافٌ إلَى شَرٍّ؛ لِأَنَّ أَغْرَاضَ النَّاسِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْخِلَافِ إلَى شَرٍّ وَإِنْ بَاعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ نَفَذَ؛ لِأَنَّهُ خِلَافٌ إلَى خَيْرٍ، فَلَمْ يَكُنْ خِلَافًا أَصْلًا، وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا لَوْ وَكَّلَهُ بِالْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ حَالَّةً فَبَاعَهُ بِأَلْفٍ نَسِيئَةً لَمْ يَنْفُذْ بَلْ يَتَوَقَّفُ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَبِيعَهُ بِأَلْفِ - دِرْهَمٍ نَسِيئَةً، فَبَاعَهُ بِأَلْفٍ حَالَّةً نَفَذَ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِطَ الْخِيَارَ لِلْآمِرِ، فَبَاعَهُ وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْخِيَارَ، لَمْ يَجُزْ، بَلْ يَتَوَقَّفُ.
وَلَوْ بَاعَ وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِلْآمِرِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُجِيزَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ الْإِجَازَةَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْيِيدِ فَائِدَةٌ، هَذَا إذَا كَانَ التَّوْكِيلُ بِالْبَيْعِ مُقَيَّدًا.
فَأَمَّا: إذَا كَانَ مُطْلَقًا فَيُرَاعَى فِيهِ الْإِطْلَاقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَيَمْلِكُ الْبَيْعَ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ إلَّا بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ قَوْلِهِمَا.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ مُطْلَقَ الْبَيْعِ يَنْصَرِفُ إلَى الْبَيْعِ الْمُتَعَارَفِ، وَالْبَيْعُ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ لَيْسَ بِمُتَعَارَفٍ، فَلَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ كَالتَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي اللَّفْظِ الْمُطْلَقَ أَنْ يَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَالْعُرْفُ مُتَعَارِضٌ فَإِنَّ الْبَيْعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ لِغَرَضِ التَّوَصُّلِ بِثَمَنِهِ إلَى شِرَاءِ مَا هُوَ أَرْبَحُ مِنْهُ مُتَعَارَفٌ أَيْضًا فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ مَعَ التَّعَارُضِ مَعَ مَا أَنَّ الْبَيْعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ إنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَارَفًا فِعْلًا فَهُوَ مُتَعَارَفٌ ذِكْرًا وَتَسْمِيَةً؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَمَّى بَيْعًا أَوْ هُوَ مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ لُغَةً وَقَدْ وُجِدَ، وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ ذِكْرًا وَتَسْمِيَةً مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْفِعْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ لَحْمَ الْآدَمِيِّ أَوْ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ يَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَكْلُهُ مُتَعَارَفًا لِكَوْنِهِ مُتَعَارَفًا إطْلَاقًا وَتَسْمِيَةً كَذَا هَذَا.
: (وَأَمَّا) التَّوْكِيلُ بِالشِّرَاءِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ " أَحَدُهُمَا " أَنَّ جَوَازَهُ ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، لِكَوْنِهِ أَمْرًا بِالتَّصَرُّفِ فِي مَالِ غَيْرِهِ، وَذِكْرُ الثَّمَنِ فِيهِ تَبَعٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ بِدُونِ ذِكْرِ الثَّمَنِ، إلَّا أَنَّهُ جُوِّزَ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ إذْ كُلُّ أَحَدٍ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجَ إلَى مَنْ يُوَكِّلُ بِهِ غَيْرَهُ، وَالْحَاجَةُ إلَى التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ بِثَمَنٍ جَرَى التَّعَارُفُ بِشِرَاءِ مِثْلِهِ بِمِثْلِهِ فَيَنْصَرِفُ الْأَمْرُ بِمُطْلَقِ الشِّرَاءِ إلَيْهِ أَلْبَتَّةَ.
الثَّانِي الْمُشْتَرِي مُتَّهَمٌ بِهَذَا الِاحْتِمَالِ: أَنَّهُ يَشْتَرِي لِنَفْسِهِ فَلَمَّا تَبَيَّنَ فِيهِ الْغَبْنُ أَظْهَرَ الشِّرَاءَ لِلْمُوَكِّلِ، وَمِثْلُ هَذِهِ التُّهْمَةِ فِي الْبَيْعِ مُنْعَدِمَةٌ فَهُوَ الْفَرْقُ، وَكَذَلِكَ يَمْلِكُ الْبَيْعَ بِغَيْرِ الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ.
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وَيَمْلِكُ الْبَيْعَ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ إلَّا بِالنَّقْدِ.
وَالْحُجَجُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْبَيْعِ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ
وَلَوْ بَاعَ الْوَكِيلُ بَعْضَ مَا وُكِّلَ بِبَيْعِهِ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا ضَرَرَ فِي تَبْعِيضِهِ، كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بِأَنْ كَانَ وَكِيلًا بِبَيْعِ عَبْدَيْنِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا؛ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ بِأَنْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدٍ فَبَاعَ نِصْفَهُ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِجَازَةِ