لَا يَجُوزُ إلَّا التَّمْلِيكُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

فَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّمْلِيكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْإِطْعَامِ عِنْدَنَا بَلْ الشَّرْطُ هُوَ التَّمْكِينُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ التَّمْلِيكُ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَمْكِينٌ لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ تَمْلِيكٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التَّمْلِيكُ شَرْطُ الْجَوَازِ، لَا يَجُوزُ بِدُونِهِ.

(وَجْهُ) قَوْلِهِ إنَّ التَّكْفِيرَ مَفْرُوضٌ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ لِيَتَمَكَّنَ الْمُكَلَّفُ مِنْ الْإِتْيَانِ بِهِ لِئَلَّا يَكُونَ تَكْلِيفَ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ الْوُسْعُ، وَطَعَامُ الْإِبَاحَةِ لَيْسَ لَهُ قَدْرٌ مَعْلُومٌ وَكَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمِسْكَيْنِ مِنْ الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَالْجُوعِ وَالشِّبَعِ يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْمُقَدَّرُ، إذْ الْفَرْضُ هُوَ التَّقْدِيرُ، يُقَالُ: فَرَضَ الْقَاضِي النَّفَقَةَ أَيْ قَدَّرَ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] أَيْ قَدَّرْتُمْ فَطَعَامُ الْإِبَاحَةِ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ، وَلِأَنَّ الْمُبَاحَ لَهُ يَأْكُلُ عَلَى مِلْكِ الْمُبِيحِ فَيَهْلَكُ الْمَأْكُولُ عَلَى مِلْكِهِ، وَلَا كَفَّارَةَ بِمَا يَهْلَكُ فِي مِلْكِ الْمُكَفِّرِ، وَبِهَذَا شَرَطَ التَّمْلِيكَ فِي الزَّكَاةِ وَالْعُشْرِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ.

(وَلَنَا) أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِلَفْظِ الْإِطْعَامِ، قَالَ اللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ -: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] ، وَالْإِطْعَامُ فِي مُتَعَارَفِ اللُّغَةِ اسْمٌ لِلتَّمْكِينِ مِنْ الْمَطْعَمِ لَا التَّمْلِيكِ، قَالَ اللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ -: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] ، وَالْمُرَادُ بِالْإِطْعَامِ الْإِبَاحَةُ لَا التَّمْلِيكُ، وَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ» وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْإِطْعَامُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ وَهُوَ الْأَمْرُ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَ النَّاسِ، يُقَالُ: فُلَانٌ يُطْعِمُ الطَّعَامَ أَيْ يَدْعُو النَّاسَ إلَى طَعَامِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] ، وَإِنَّمَا يُطْعِمُونَ عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ دُونَ التَّمْلِيكِ، بَلْ لَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ فِي ذَلِكَ التَّمْلِيكُ؛ فَدَلَّ أَنَّ الْإِطْعَامَ هُوَ التَّمْكِينُ مِنْ التَّطَعُّمِ إلَّا أَنَّهُ إذَا مَلَكَ جَازَ لِأَنَّ تَحْتَ التَّمْلِيكِ تَمْكِينًا لِأَنَّهُ إذَا مَلَّكَهُ فَقَدْ مَكَّنَّهُ مِنْ التَّطَعُّمِ وَالْأَكْلِ فَيَجُوزُ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَمْكِينٌ، وَكَذَا إشَارَةُ النَّصِّ دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْنَا لِأَنَّهُ قَالَ: " إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ " وَالْمَسْكَنَةُ هِيَ الْحَاجَةُ، وَاخْتِصَاصُ الْمِسْكِينِ لِلْحَاجَةِ إلَى أَكْلِ الطَّعَامِ دُونَ تَمَلُّكِهِ تَعُمُّ الْمِسْكِينَ وَغَيْرَهُ، فَكَانَ فِي إضَافَةِ الْإِطْعَامِ إلَى الْمَسَاكِينِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْإِطْعَامَ هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي يَصِيرُ الْمِسْكِينُ بِهِ مُتَمَكِّنًا مِنْ التَّطَعُّمِ لَا التَّمْلِيكِ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْعُشْرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ طَعَامُ الْإِبَاحَةِ لِأَنَّ الشَّرْعَ هُنَاكَ لَمْ يَرِدْ بِلَفْظِ الْإِطْعَامِ وَإِنَّمَا وَرَدَ بِلَفْظِ الْإِيتَاءِ وَالْأَدَاءِ.

قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي الزَّكَاةِ: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] ، وَقَالَ - تَعَالَى - فِي الْعُشْرِ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] ، وَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ: «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ» الْحَدِيثَ، وَالْإِيتَاءُ وَالْأَدَاءُ يُشْعِرَانِ بِالتَّمْلِيكِ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْإِطْعَامِ الْمَذْكُورِ فِي النَّصِّ إنْ كَانَ هُوَ التَّمْلِيكَ كَانَ النَّصُّ مَعْلُولًا بِدَفْعِ حَاجَةِ الْمِسْكِينِ، وَهَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ التَّمْكِينِ عَلَى طَرِيقِ الْإِبَاحَةِ، بَلْ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى دَفْعِ الْجُوعِ وَسَدِّ الْمَسْكَنَةِ مِنْ التَّمْلِيكِ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ مَعْنَى الدَّفْعِ وَالسَّدِّ بِتَمْلِيكِ الْحِنْطَةِ إلَّا بَعْدَ طُولِ الْمُدَّةِ، وَإِلَّا بَعْدَ تَحَمُّلِ مُؤَنٍ، فَكَانَ الْإِطْعَامُ عَلَى طَرِيقِ الْإِبَاحَةِ أَقْرَبُ إلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ التَّمْلِيكِ فَكَانَ أَحَقَّ بِالْجَوَازِ.

وَالثَّانِي أَنَّ الْكَفَّارَةَ جُعِلَتْ مُكَفِّرَةً لِلسَّيِّئَةِ بِمَا أَعْطَى نَفْسَهُ مِنْ الشَّهْوَةِ الَّتِي لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهَا، حَيْثُ لَمْ يَفِ بِالْعَهْدِ الَّذِي عَهِدَ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - فَخَرَجَ فِعْلُهُ مَخْرَجَ نَاقِضِ الْعَهْدِ وَمُخْلِفِ الْوَعْدِ؛ فَجُعِلَتْ كَفَّارَتُهُ بِمَا تَنْفِرُ عَنْهُ الطِّبَاعُ وَتَتَأَلَّمُ وَيَثْقُلُ عَلَيْهَا لِيَذُوقَ أَلَمَ إخْرَاجِ مَالِهِ الْمَحْبُوبِ عَنْ مِلْكِهِ فَيُكَفِّرُ مَا أَعْطَى نَفْسَهُ مِنْ الشَّهْوَةِ، لِأَنَّهُ مِنْ وَجْهٍ أُذِنَ لَهُ فِيهَا، وَمَعْنَى تَأَلُّمِ الطَّبْعِ فِيمَا قُلْنَا أَكْثَرُ لِأَنَّ دُعَاءَ الْمَسَاكِينِ وَجَمْعَهُمْ عَلَى الطَّعَامِ وَخِدْمَتَهُمْ وَالْقِيَامَ بَيْنَ أَيْدِيهمْ أَشَدُّ عَلَى الطَّبْعِ مِنْ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِمْ لِمَا جُبِلَ طَبْعُ الْأَغْنِيَاءِ عَلَى النُّفْرَةِ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَمِنْ الِاخْتِلَاطِ مَعَهُمْ وَالتَّوَاضُعِ لَهُمْ فَكَانَ هَذَا أَقْرَبَ إلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى التَّكْفِيرِ فَكَانَ تَجْوِيزُ التَّمْلِيكِ تَكْفِيرًا تَجْوِيزٌ لِطَعَامِ الْإِبَاحَةِ تَكْفِيرًا مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى (وَأَمَّا) قَوْلُهُ: " إنَّ الْكَفَّارَةَ مَفْرُوضَةٌ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةَ الْقَدْرِ " فَنَقُولُ: هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِالْكَفَّارَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ - عَزَّ شَأْنُهُ - فَرَضَ هَذَا الْإِطْعَامَ وَعُرِفَ الْمَفْرُوضُ بِإِطْعَامِ الْأَهْلِ بِقَوْلِهِ - عَزَّ شَأْنُهُ -: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْأَهْلُ مَعْلُومًا، وَالْمَعْلُومُ مِنْ طَعَامِ الْأَهْلِ هُوَ طَعَامُ الْإِبَاحَةِ دُونَ التَّمْلِيكِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ طَعَامَ الْإِبَاحَةِ مَعْلُومُ الْقَدْرِ وَقَدْرُهُ الْكَفَّارَةُ بِطَعَامِ الْأَهْلِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَفْرُوضًا كَطَعَامِ الْأَهْلِ فَيُمْكِنُهُ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ الْفَرْضِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: " إنَّ الطَّعَامَ يَهْلَكُ عَلَى مِلْكِ الْمُكَفِّرِ فَلَا يَقَعُ عَنْ التَّكْفِيرِ " فَمَمْنُوعٌ بَلْ كَمَا صَارَ مَأْكُولًا فَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ، إلَّا أَنَّهُ يَزُولُ لَا إلَى أَحَدٍ وَهَذَا يَكْفِي لِصَيْرُورَتِهِ كَفَّارَةً كَالْإِعْتَاقِ.

(وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مِقْدَارِ مَا يُطْعَمُ فَالْمِقْدَارُ فِي التَّمْلِيكِ هُوَ نِصْفُ صَاعٍ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015