بِالدِّرَّةِ فَهَرَبَ الرَّجُلُ وَشَرَدَتْ الشَّاةُ وَلِأَنَّ الْبَهِيمَةَ تَعْرِفُ الْآلَةَ الْجَارِحَةَ كَمَا تَعْرِفُ الْمَهَالِكَ فَتَتَحَرَّزُ عَنْهَا فَإِذَا أَحَدَّ الشَّفْرَةَ وَقَدْ أَضْجَعَهَا يَزْدَادُ أَلَمُهَا وَهَذَا كُلُّهُ لَا تَحْرُمُ بِهِ الذَّبِيحَةُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ لَيْسَ لِمَعْنًى فِي الْمَنْهِيِّ بَلْ لِمَا يَلْحَقُ الْحَيَوَانَ مِنْ زِيَادَةِ أَلَمٍ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ فَكَانَ النَّهْيُ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ كَالذَّبْحِ بِسِكِّينٍ مَغْصُوبٍ وَالِاصْطِيَادِ بِقَوْسٍ مَغْصُوبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ فَاَلَّذِي يَحْرُمُ أَكْلُهُ مِنْهُ سَبْعَةٌ: الدَّمُ الْمَسْفُوحُ، وَالذَّكَرُ، وَالْأُنْثَيَانِ، وَالْقُبُلُ، وَالْغُدَّةُ، وَالْمَثَانَةُ، وَالْمَرَارَةُ لِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ السَّبْعَةُ مِمَّا تَسْتَخْبِثُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ فَكَانَتْ مُحَرَّمَةً.
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الشَّاةِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَالْقُبُلَ وَالْغُدَّةَ وَالْمَرَارَةَ وَالْمَثَانَةَ وَالدَّمَ فَالْمُرَادُ مِنْهُ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ وَبَيْنَ الدَّمِ فِي الْكَرَاهَةِ، وَالدَّمُ الْمَسْفُوحُ مُحَرَّمٌ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: الدَّمُ حَرَامٌ وَأَكْرَهُ السِّتَّةَ أَطْلَقَ اسْمَ الْحَرَامِ عَلَى الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَسَمَّى مَا سِوَاهُ مَكْرُوهًا؛ لِأَنَّ الْحَرَامَ الْمُطْلَقَ مَا ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَحُرْمَةُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ قَدْ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَهُوَ النَّصُّ الْمُفَسَّرُ مِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] إلَى قَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145] وَانْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ أَيْضًا عَلَى حُرْمَتِهِ فَأَمَّا حُرْمَةُ مَا سِوَاهُ مِنْ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ فَمَا ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ بَلْ بِالِاجْتِهَادِ أَوْ بِظَاهِرِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ الْمُحْتَمِلِ لِلتَّأْوِيلِ أَوْ الْحَدِيثِ لِذَلِكَ فَصَلَ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْمِ فَسَمَّى ذَلِكَ حَرَامًا وَذَا مَكْرُوهًا وَاَللَّهُ عَزَّ اسْمُهُ أَعْلَمُ.
(كِتَابُ الِاصْطِيَادِ)
قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ وَالصُّيُودِ مَا يُؤْكَلُ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ وَمَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ مِنْهَا وَمَا يُكْرَهُ، وَالْآنَ نُبَيِّنُ فِي كِتَابِ الِاصْطِيَادِ مَا يُبَاحُ اصْطِيَادُهُ وَمَا لَا يُبَاحُ وَمَنْ يُبَاحُ لَهُ الِاصْطِيَادُ وَمَنْ لَا يُبَاحُ لَهُ فَقَطْ؛ أَمَّا الْأَوَّلُ فَيُبَاحُ اصْطِيَادُ مَا فِي الْبَحْرِ وَالْبَرِّ مِمَّا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، غَيْرَ أَنَّ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ يَكُونُ اصْطِيَادُهُ لِلِانْتِفَاعِ بِلَحْمِهِ وَمَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ يَكُونُ اصْطِيَادُهُ لِلِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ وَشَعْرِهِ وَعَظْمِهِ أَوْ لِدَفْعِ أَذِيَّتِهِ إلَّا صَيْدَ الْحَرَمِ فَإِنَّهُ لَا يُبَاحُ اصْطِيَادُهُ إلَّا الْمُؤْذِيَ مِنْهُ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67] وَقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي صَيْدِ الْحَرَمِ فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ «وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ» ، وَخَصَّ مِنْهُ الْمُؤْذِيَاتِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خَمْسٌ مِنْ الْفَوَاسِقِ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ» .
وَأَمَّا الثَّانِي فَيُبَاحُ اصْطِيَادُ مَا فِي الْبَحْرِ لِلْحَلَالِ وَالْمُحْرِمِ وَلَا يُبَاحُ اصْطِيَادُ مَا فِي الْبَرِّ لِلْمُحْرِمِ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] إلَى قَوْله تَعَالَى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] وَالْفَصْلُ بَيْنَ صَيْدِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ وَاَللَّهُ عَزَّ شَأْنُهُ الْمُوَفِّقُ
(كِتَابُ التَّضْحِيَةِ)
يُحْتَاجُ لِمَعْرِفَةِ مَسَائِلِ هَذَا الْكِتَابِ إلَى بَيَانِ صِفَةِ التَّضْحِيَةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ أَوْ لَا، وَإِلَى بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً وَإِلَى بَيَانِ وَقْتِ الْوُجُوبِ وَإِلَى بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ وَإِلَى بَيَانِ مَحَلِّ إقَامَةِ الْوَاجِبِ وَإِلَى بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِ إقَامَةِ الْوَاجِبِ وَإِلَى بَيَانِ مَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْعَلَ قَبْلَ التَّضْحِيَةِ وَعِنْدَهَا وَبَعْدَهَا وَمَا يُكْرَهُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ.
أَمَّا صِفَةُ التَّضْحِيَةِ فَالتَّضْحِيَةُ نَوْعَانِ: وَاجِبٌ وَتَطَوُّعٌ؛ وَالْوَاجِبُ مِنْهَا أَنْوَاعٌ: مِنْهَا مَا يَجِبُ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَمِنْهَا مَا يَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ دُونَ الْغَنِيِّ وَمِنْهَا مَا يَجِبُ عَلَى الْغَنِيِّ دُونَ الْفَقِيرِ أَمَّا الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ فَالْمَنْذُورُ بِهِ؛ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ شَاةً أَوْ بَدَنَةً أَوْ هَذِهِ الشَّاةَ أَوْ هَذِهِ الْبَدَنَةَ أَوْ قَالَ: جَعَلْت هَذِهِ الشَّاةَ ضَحِيَّةً أَوْ أُضْحِيَّةً وَهُوَ غَنِيٌّ أَوْ فَقِيرٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ قُرْبَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ مِنْ جِنْسِهَا إيجَابٌ وَهُوَ هَدْيُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالْإِحْصَارِ وَفِدَاءُ إسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقِيلَ هَذِهِ الْقُرْبَةُ تَلْزَمُ بِالنَّذْرِ كَسَائِرِ الْقُرَبِ الَّتِي لِلَّهِ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ مِنْ جِنْسِهَا إيجَابٌ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا، وَالْوُجُوبُ بِسَبَبِ