كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُونَ لُحُومَ الْخَيْلِ فِي مَغَازِيهِمْ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَهَا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ كَمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى هَذَا عَمَلًا بِالدَّلِيلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ أَوْ يَتَرَجَّحُ الْحَاظِرُ عَلَى الْمُبِيحِ احْتِيَاطًا وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُجَجُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يَحْرُمُ أَكْلُ لَحْمِ الْخَيْلِ.

(وَأَمَّا) عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يُكْرَهُ أَكْلُهُ وَلَمْ يُطْلَقْ التَّحْرِيمُ لِاخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ فِي الْبَابِ وَاخْتِلَافِ السَّلَفِ فَكُرِهَ أَكْلُ لَحْمِهِ احْتِيَاطًا لِبَابِ الْحُرْمَةِ.

وَأَمَّا الْمُتَوَحِّشُ مِنْهَا نَحْوُ الظِّبَاءِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ وَحُمُرِ الْوَحْشِ وَإِبِلِ الْوَحْشِ فَحَلَالٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَلِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] وَقَوْلُهُ عَزَّ شَأْنُهُ {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 57] وَلُحُومُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ الطَّيِّبَاتِ فَكَانَ حَلَالًا وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ فَقَالَ: الْأَهْلِيَّةُ؟ فَقِيلَ: نَعَمْ» فَدَلَّ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى اخْتِلَافِ حُكْمِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْوَحْشِيَّةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَهْلِيَّةِ الْحُرْمَةُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ فَكَانَ حُكْمُ الْوَحْشِيَّةِ الْحِلَّ ضَرُورَةً وَرُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ فِهْرٍ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُوَ بِالرَّوْحَاءِ وَمَعَ الرَّجُلِ حِمَارٌ وَحْشِيٌّ عَقَرَهُ فَقَالَ: هَذِهِ رَمْيَتِي يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهِيَ لَكَ فَقَبِلَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَمَرَ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَسَمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ» ، وَالْحَدِيثُ وَإِنْ وَرَدَ فِي حِمَارِ الْوَحْشِ لَكِنَّ إحْلَالَ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ إحْلَالٌ لِلظَّبْيِ وَالْبَقَرِ الْوَحْشِيِّ وَالْإِبِلِ الْوَحْشِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحِمَارَ الْوَحْشِيَّ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ مِنْ الْأَهْلِيِّ مَا هُوَ حَلَالٌ بَلْ هُوَ حَرَامٌ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ جِنْسِهَا مِنْ الْأَهْلِيِّ مَا هُوَ حَلَالٌ فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْحِلِّ.

وَأَمَّا الْمُسْتَأْنِسُ مِنْ السِّبَاعِ وَهُوَ الْكَلْبُ وَالسِّنَّوْرُ الْأَهْلِيُّ فَلَا يَحِلُّ وَكَذَلِكَ الْمُتَوَحِّشُ مِنْهَا الْمُسَمَّى بِسِبَاعِ الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ وَهُوَ كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلُّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ لِمَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ» ، وَعَنْ الزُّهْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ حَرَامٌ» فَذُو النَّابِ مِنْ سِبَاعِ الْوَحْشِ مِثْلُ الْأَسَدِ وَالذِّئْبِ وَالضَّبُعِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ وَالثَّعْلَبِ وَالسِّنَّوْرِ الْبَرِّيِّ وَالسِّنْجَابِ وَالْفَنَكِ وَالسَّمُّورِ وَالدَّلَقِ وَالدُّبِّ وَالْقِرْدِ وَالْفِيلِ وَنَحْوِهَا فَلَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ إلَّا الضَّبُعَ فَإِنَّهُ حَلَالٌ عِنْدَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ «قَالَ: فِي الضَّبُعِ كَبْشٌ، فَقُلْت لَهُ: أَهُوَ صَيْدٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقُلْت: يُؤْكَلُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقُلْت: أَسَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ؟ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: نَعَمْ» .

(وَلَنَا) أَنَّ الضَّبُعَ سَبُعٌ ذُو نَابٍ فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَمَا رُوِيَ لَيْسَ بِمَشْهُورٍ فَالْعَمَلُ بِالْمَشْهُورِ أَوْلَى عَلَى أَنَّ مَا رَوَيْنَا مُحَرِّمٌ وَمَا رَوَاهُ مُحَلِّلٌ وَالْمُحَرِّمُ يَقْضِي عَلَى الْمُبِيحِ احْتِيَاطًا وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْأَرْنَبِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَهْدَى لَهُ أَعْرَابِيٌّ أَرْنَبَةً مَشْوِيَّةً فَقَالَ: لِأَصْحَابِهِ كُلُوا» ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَفْوَانَ أَوْ صَفْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: «أَصَبْت أَرْنَبَتَيْنِ فَذَبَحْتُهُمَا بِمَرْوَةِ وَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَنِي بِأَكْلِهِمَا» .

وَذُو الْمِخْلَبِ مِنْ الطَّيْرِ كَالْبَازِي وَالْبَاشَقِ وَالصَّقْرِ وَالشَّاهِينِ وَالْحِدَأَةِ وَالنَّعَّابِ وَالنَّسْرِ وَالْعُقَابِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَيَدْخُلُ تَحْتَ نَهْيِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ وَرُوِيَ أَنَّهُ «نَهَى عَنْ كُلِّ ذِي خَطْفَةٍ وَنُهْبَةٍ وَمُجَثَّمَةٍ وَعَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ الطَّيْرِ وَالْمُجَثَّمَةِ» رُوِيَ بِكَسْرِ الثَّاءِ وَفَتْحِهَا مِنْ الْجُثُومِ وَهُوَ تَلَبُّدُ الطَّائِرِ الَّذِي مِنْ عَادَتِهِ الْجُثُومُ عَلَى غَيْرِهِ لِيَقْتُلَهُ وَهُوَ السِّبَاعُ مِنْ الطَّيْرِ فَيَكُونُ نَهْيًا عَلَى أَكْلِ كُلِّ طَيْرٍ هَذَا عَادَتُهُ وَبِالْفَتْحِ هُوَ الصَّيْدُ الَّذِي يَجْثُمُ عَلَيْهِ طَائِرٌ فَيَقْتُلُهُ فَيَكُونُ نَهْيًا عَنْ أَكْلِ كُلِّ طَيْرٍ قَتَلَهُ طَيْرٌ آخَرُ بِجُثُومِهِ عَلَيْهِ وَقِيلَ بِالْفَتْحِ هُوَ الَّذِي يُرْمَى حَتَّى يَجْثُمَ فَيَمُوتَ، وَمَا لَا مِخْلَبَ لَهُ مِنْ الطَّيْرِ فَالْمُسْتَأْنِسُ مِنْهُ كَالدَّجَاجِ وَالْبَطِّ وَالْمُتَوَحِّشُ كَالْحَمَامِ وَالْفَاخِتَةِ وَالْعَصَافِيرِ والقبج وَالْكُرْكِيِّ وَالْغُرَابِ الَّذِي يَأْكُلُ الْحَبَّ وَالزَّرْعَ وَالْعَقْعَقِ وَنَحْوِهَا حَلَالٌ بِالْإِجْمَاعِ.

[فَصْلٌ فِي بَيَان مَا يُكْرَهُ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُكْرَهُ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ فَيُكْرَهُ أَكْلُ لُحُومِ الْإِبِلِ الْجَلَّالَةِ وَهِيَ الَّتِي الْأَغْلَبُ مِنْ أَكْلِهَا النَّجَاسَةُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْإِبِلِ الْجَلَّالَةِ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْغَالِبُ مِنْ أَكْلِهَا النَّجَاسَاتِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015