أُهْدِيَ إلَيْهِ لَحْمُ ضَبٍّ فَامْتَنَعَ أَنْ يَأْكُلَهُ فَجَاءَتْ سَائِلَةٌ فَأَرَادَتْ سَيِّدَتُنَا عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنْ تُطْعِمَهَا إيَّاهُ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتُطْعِمِينَ مَا لَا تَأْكُلِينَ؟» وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ امْتِنَاعُهُ لِمَا أَنَّ نَفْسَهُ الشَّرِيفَةَ عَافَتْهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا مَنَعَ مِنْ التَّصَدُّقِ بِهِ كَشَاةِ الْأَنْصَارِ إنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِهَا أَمَرَ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا؛ وَلِأَنَّ الضَّبَّ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسُوخِ وَالْمُسُوخُ مُحَرَّمَةٌ كَالدُّبِّ وَالْقِرْدِ وَالْفِيلِ فِيمَا قِيلَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الضَّبِّ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّ أُمَّةً مُسِخَتْ فِي الْأَرْضِ وَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْهَا» وَهَكَذَا رُوِيَ «عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا فِي بَعْضِ الْمَغَازِي فَأَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ فَنَزَلْنَا فِي أَرْضٍ كَثِيرَةِ الضَّبَابِ فَنَصَبْنَا الْقُدُورَ وَكَانَتْ الْقُدُورُ تَغْلِي إذْ جَاءَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قُلْنَا الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: إنَّ أُمَّةً مُسِخَتْ فَأَخَافُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْهَا فَأَمَرَ بِإِلْقَاءِ الْقُدُورِ» ، وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَمَا رَوَيْنَا فَهُوَ خَاطِرٌ وَالْعَمَلُ بِالْخَاطِرِ أَوْلَى.
وَمَا لَهُ دَمٌ سَائِلٌ نَوْعَانِ: مُسْتَأْنِسٌ وَمُسْتَوْحِشٌ أَمَّا الْمُسْتَأْنِسُ مِنْ الْبَهَائِمِ فَنَحْوُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ بِالْإِجْمَاعِ وَبِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5] ، وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [غافر: 79] وَاسْمُ الْأَنْعَامِ يَقَعُ عَلَى هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَا تَحِلُّ الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى -.
وَحُكِيَ عَنْ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْحِمَارِ وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145] وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَمِيرَ الْإِنْسِيَّةَ.
وَرُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَالَ: إنَّهُ فَنِيَ مَالِي وَلَمْ يَبْقَ لِي إلَّا الْحُمُرُ الْأَهْلِيَّةُ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: كُلْ مِنْ سَمِينِ مَالِكَ فَإِنِّي إنَّمَا كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ جَلَّالِ الْقَرْيَةِ» .
وَرُوِيَ " عَنْ جَوَالِّ الْقُرَى " بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَرُوِيَ «فَإِنَّمَا قَذِرْتُ لَكُمْ جَالَّةُ الْقَرْيَةِ» .
(وَلَنَا) قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] ، وَسَنَذْكُرُ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَرَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَعَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ» .
وَرُوِيَ «أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَهُوَ يُفْتِي النَّاسَ فِي الْمُتْعَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ فَرَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ ذَلِكَ» وَرُوِيَ أَنَّهُ «قِيلَ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَوْمَ خَيْبَرَ أُكِلَتْ الْحُمُرُ فَأَمَرَ أَبَا طَلْحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُنَادِي: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَاكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ فَإِنَّهَا رِجْزٌ» وَرُوِيَ فَإِنَّهَا رِجْسٌ وَهَذِهِ أَخْبَارٌ مُسْتَفِيضَةٌ عَرَفَهَا الْخَاصُّ وَالْعَامُّ وَقَبِلُوهَا وَعَمِلُوا بِهَا وَظَهَرَ الْعَمَلُ بِهَا.
وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ اُخْتُصَّ مِنْهَا أَشْيَاءُ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِيهَا فَيَخْتَصُّ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ مَعَ أَنَّ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ مَشْهُورَةٌ وَيَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُودِ وَعَلَى أَنَّ فِي الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ سِوَى الْمَذْكُورِ فِيهَا وَقْتَ نُزُولِهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْفِعْلِ هُوَ الْحَالُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ تَحْرِيمُ سِوَى الْمَذْكُورِ فِيهَا، ثُمَّ حَرَّمَ مَا حَرَّمَ بَعْدُ عَلَى أَنَّا نَقُولُ بِمُوجِبِ الْآيَةِ: لَا مُحَرَّمَ سِوَى الْمَذْكُورِ فِيهَا وَنَحْنُ لَا نُطْلِقُ اسْمَ الْمُحَرَّمِ عَلَى لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ إذْ الْمُحَرَّمُ الْمُطْلَقُ مَا تَثْبُتُ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، فَأَمَّا مَا كَانَتْ حُرْمَتُهُ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ فَلَا يُسَمَّى مُحَرَّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ نُسَمِّيهِ مَكْرُوهًا فَنَقُولُ بِوُجُوبِ الِامْتِنَاعِ عَنْ أَكْلِهَا عَمَلًا مَعَ التَّوَقُّفِ فِي اعْتِقَادِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُلْ مِنْ سَمِينِ مَالِكَ» أَيْ: مِنْ أَثْمَانِهَا كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ أَكَلَ عَقَارَهُ أَيْ: ثَمَنَ عَقَارِهِ وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إطْلَاقًا لِلِانْتِفَاعِ بِظُهُورِهَا بِالْإِكْرَاءِ كَمَا يُحْمَلُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ كُلِّهَا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ فَانْفَسَخَ بِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ جُهِلَ التَّارِيخُ فَالْعَمَلُ بِالْخَاطِرِ أَوْلَى احْتِيَاطًا، فَإِنْ قِيلَ مَا رَوَيْتُمْ يَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى عَنْ أَكْلِ الْحُمُرِ يَوْمَ خَيْبَرَ» ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ غَنِيمَةً مِنْ الْخُمُسِ أَوْ لِقِلَّةِ الظَّهْرِ أَوْ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ جَلَّالَةً فَوَقَعَ التَّعَارُضُ وَالْجَوَابُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ مَحْمَلًا.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْجُنْدُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ الْخُمْسُ كَالطَّعَامِ وَالْعَلَفِ.
(وَأَمَّا) الثَّانِي؛ فَلِأَنَّ الْمَرْوِيَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ