عِبَارَاتُ الْمَشَايِخِ؛ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الشَّفِيعَ يَقُولُ طَلَبْتُ الشُّفْعَةَ وَأَطْلُبُهَا وَأَنَا طَالِبُهَا، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ طَلَبْتُ الشُّفْعَةَ فَحَسْبُ، وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يُرَاعَى فِيهِ أَلْفَاظُ الطَّلَبِ بَلْ لَوْ أَتَى بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الطَّلَبِ أَيَّ لَفْظٍ كَانَ يَكْفِي، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ ادَّعَيْتُ الشُّفْعَةَ أَوْ سَأَلْتُ الشُّفْعَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الطَّلَبِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الطَّلَبِ وَمَعْنَى الطَّلَبِ يَتَأَدَّى بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الطَّلَبِ أَوْ بِغَيْرِهِ.
(وَأَمَّا) حُكْمُ الطَّلَبِ فَهُوَ اسْتِقْرَارُ الْحَقِّ فَالشَّفِيعُ إذَا أَتَى بِطَلَبَيْنِ صَحِيحَيْنِ اسْتَقَرَّ الْحَقُّ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْطُلُ بِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ أَبَدًا حَتَّى يُسْقِطَهَا بِلِسَانِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ: إذَا تَرَكَ الْمُخَاصَمَةَ إلَى الْقَاضِي فِي زَمَانٍ يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى الْمُخَاصَمَةِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، وَلَمْ يُوَقِّتْ فِيهِ وَقْتًا.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِمَا يَرَاهُ الْقَاضِي، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إذَا مَضَى شَهْرٌ بَعْدَ الطَّلَبِ وَلَمْ يَطْلُبْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ ثَبَتَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الشَّفِيعِ، وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الْإِنْسَانِ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ الْإِضْرَارَ بِغَيْرِهِ، وَفِي إبْقَاءِ هَذَا الْحَقِّ بَعْدَ تَأْخِيرِ الْخُصُومَةِ أَبَدًا إضْرَارٌ بِالْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْنِي وَلَا يَغْرِسُ خَوْفًا مِنْ النَّقْضِ وَالْقَلْعِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّقْدِيرِ بِزَمَانٍ لِئَلَّا يَتَضَرَّرَ بِهِ، فَقَدَّرْنَا بِالشَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى الْآجَالِ، فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ وَلَمْ يَطْلُبْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ فَرَّطَ فِي الطَّلَبِ فَتَبْطُلْ شُفْعَتُهُ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّ الْحَقَّ لِلشَّفِيعِ قَدْ ثَبَتَ بِالطَّلَبَيْنِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَقَّ مَتَى ثَبَتَ لِإِنْسَانٍ لَا يَبْطُلُ إلَّا بِإِبْطَالٍ وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْمُطَالَبَةِ مِنْهُ لَا يَكُونُ إبْطَالًا كَتَأْخِيرِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَقَوْلُهُ " يَتَضَرَّرُ الْمُشْتَرِي " مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ فَالظَّاهِرُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ خَوْفًا مِنْ النَّقْضِ وَالْقَلْعِ، فَلَئِنْ فَعَلَ فَهُوَ الَّذِي أَضَرَّ بِنَفْسِهِ فَلَا يُضَافُ ذَلِكَ إلَى الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الشُّفْعَةِ بِغَيْبَةِ الشَّفِيعِ وَلَا يُقَالُ أَنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِالْمُشْتَرِي بِالِامْتِنَاعِ مِنْ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: مَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: اخْتِيَارِيٌّ وَضَرُورِيٌّ؛ وَالِاخْتِيَارِيُّ نَوْعَانِ: صَرِيحٌ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ دَلَالَةً؛ أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ الشَّفِيعُ: أَبْطَلْتُ الشُّفْعَةَ أَوْ أَسْقَطْتُهَا أَوْ أَبْرَأْتُكَ عَنْهَا أَوْ سَلَّمْتُهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ خَالِصُ حَقِّهِ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهَا اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ سَوَاءٌ عَلِمَ الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بَعْدَ أَنْ كَانَ بَعْدَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ هَذَا إسْقَاطُ الْحَقِّ صَرِيحًا وَصَرِيحُ الْإِسْقَاطِ يَسْتَوِي فِيهِ الْعِلْمُ وَالْجَهْلُ كَالطَّلَاقِ وَالْإِبْرَاءِ عَنْ الْحُقُوقِ، بِخِلَافِ الْإِسْقَاطِ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَإِنَّهُ لَا يُسْقِطُ حَقَّهُ ثَمَّةَ إلَّا الْعِلْمُ، وَالْفَرْقُ يُذْكَرُ بَعْدَ هَذَا.
وَلَا يَصِحُّ تَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْحَقِّ، وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ - قَبْلَ وُجُوبِهِ وَوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِ - مُحَالٌ وَلَوْ أُخْبِرَ بِالْبَيْعِ بِقَدْرٍ مِنْ الثَّمَنِ أَوْ جِنْسٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ فُلَانٍ فَسَلَّمَ فَظَهَرَ بِخِلَافِهِ هَلْ يَصِحُّ تَسْلِيمُهُ؟ فَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ لَا يَخْتَلِفُ غَرَضُ الشَّفِيعِ فِي التَّسْلِيمِ صَحَّ التَّسْلِيمُ وَبَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، وَإِنْ كَانَ يَخْتَلِفُ غَرَضُهُ لَمْ يَصِحَّ وَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ فِي التَّسْلِيمِ إذَا لَمْ يَخْتَلِفْ بَيْنَ مَا أُخْبِرَ بِهِ وَبَيْنَ مَا بِيعَ بِهِ وَقَعَ التَّسْلِيمُ مُحَصِّلًا لِغَرَضِهِ فَصَحَّ، وَإِذَا اخْتَلَفَ غَرَضُهُ فِي التَّسْلِيمِ لَمْ يَقَعْ التَّسْلِيمُ مُحَصِّلًا لِغَرَضِهِ فَلَمْ يَصِحَّ التَّسْلِيمُ وَبَيَانُ هَذَا فِي مَسَائِلَ: إذَا أُخْبِرَ أَنَّ الدَّارَ بِيعَتْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَلْفَيْنِ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ كَانَ لِاسْتِكْثَارِهِ الثَّمَنَ فَإِذَا لَمْ تَصْلُحْ لَهُ بِأَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ فَبِأَكْثَرِهِمَا أَوْلَى، فَحَصَلَ غَرَضُهُ بِالتَّسْلِيمِ فَبَطَلَتْ شُفْعَتُهُ.
وَلَوْ أُخْبِرَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَلْفٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِخَمْسِمِائَةٍ فَلَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عِنْدَ كَثْرَةِ الثَّمَنِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّسْلِيمِ عِنْدَ قِلَّتِهِ فَلَمْ يَحْصُلْ غَرَضُهُ بِالتَّسْلِيمِ فَبَقِيَ عَلَى شُفْعَتِهِ.
وَلَوْ أُخْبِرَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِمِائَةِ دِينَارٍ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَلْفًا أَوْ أَكْثَرَ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَهُ الشُّفْعَةُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا.
(وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً، وَاعْتِبَارُ الْحَقَائِقِ هُوَ الْأَصْلُ، وَالْغَرَضُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ جِنْسٌ وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْآخَرُ فَلَمْ يَقَعْ