ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ نُكْرٍ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا؛ فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ قَبِيحًا؛ فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ» وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلِهَذَا تُرِكَ الْقِيَاسُ فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ بِالْأَجْرِ، مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْمُدَّةِ، وَمِقْدَارِ الْمَاءِ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ، وَفِي قَطْعِهِ الشَّارِبَ لِلسِّقَاءِ، مِنْ غَيْرِ بَيَانِ قَدْرِ الْمَشْرُوبِ، وَفِي شِرَاءِ الْبَقْلِ، وَهَذِهِ الْمُحَقَّرَاتُ كَذَا هَذَا؛ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى خُفٍّ، أَوْ نَعْلٍ مِنْ جِنْسٍ مَخْصُوصٍ، وَنَوْعٍ مَخْصُوصٍ، عَلَى قَدْرٍ مَخْصُوصٍ وَصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقَلَّمَا يَتَّفِقُ وُجُودُهُ مَصْنُوعًا؛ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَسْتَصْنِعَ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ؛ لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إنَّهُ مَعْدُومٌ؛ لِأَنَّهُ أُلْحِقَ بِالْمَوْجُودِ لِمِسَاسِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، كَالْمُسْلَمِ فِيهِ: فَلَمْ يَكُنْ بَيْعَ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى عَقْدَيْنِ جَائِزَيْنِ، - وَهُوَ السَّلَمُ وَالْإِجَارَةُ -؛ لِأَنَّ السَّلَمَ عَقْدٌ عَلَى مَبِيعٍ فِي الذِّمَّةِ، وَاسْتِئْجَارُ الصُّنَّاعِ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَمَلُ، وَمَا اشْتَمَلَ عَلَى مَعْنَى عَقْدَيْنِ جَائِزَيْنِ؛ كَانَ جَائِزًا.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِهِ (فَمِنْهَا) : بَيَانُ جِنْسِ الْمَصْنُوعِ، وَنَوْعِهِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِدُونِهِ.
(وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ التَّعَامُلُ بَيْنَ النَّاسِ - مِنْ أَوَانِي الْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ، وَالنُّحَاسِ وَالزُّجَاجِ، وَالْخِفَافِ وَالنِّعَالِ، وَلُجُمِ الْحَدِيدِ لِلدَّوَابِّ، وَنُصُولِ السُّيُوفِ، وَالسَّكَاكِينِ وَالْقِسِيِّ، وَالنَّبْلِ وَالسِّلَاحِ كُلِّهِ، وَالطَّشْتِ وَالْقُمْقُمَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ - وَلَا يَجُوزُ فِي الثِّيَابِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَهُ، وَإِنَّمَا جَوَازُهُ - اسْتِحْسَانًا - لِتَعَامُلِ النَّاسِ، وَلَا تَعَامُلَ فِي الثِّيَابِ.
(وَمِنْهَا) : أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ أَجَلٌ، فَإِنْ ضَرَبَ لِلِاسْتِصْنَاعِ أَجَلًا؛ صَارَ سَلَمًا حَتَّى يُعْتَبَرَ فِيهِ شَرَائِطُ السَّلَمِ، وَهُوَ قَبْضُ الْبَدَلِ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَا خِيَارَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا سَلَّمَ الصَّانِعُ الْمَصْنُوعَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شُرِطَ عَلَيْهِ فِي السَّلَمِ (وَهَذَا) قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَهُوَ اسْتِصْنَاعٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ - ضَرَبَ فِيهِ أَجَلًا أَوْ لَمْ يَضْرِبْ - وَلَوْ ضَرَبَ لِلِاسْتِصْنَاعِ فِيمَا لَا يَجُوزُ فِيهِ الِاسْتِصْنَاعُ - كَالثِّيَابِ وَنَحْوِهَا - أَجَلًا؛ يَنْقَلِبُ سَلَمًا فِي قَوْلِهِمَا جَمِيعًا (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِضَرْبِ الْأَجَلِ فِي الِاسْتِصْنَاعِ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ تَعْجِيلُ الْعَمَلِ لَا تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ؛ فَلَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ كَوْنِهِ اسْتِصْنَاعًا، أَوْ يُقَالُ: قَدْ يُقْصَدُ بِضَرْبِ الْأَجَلِ تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ، وَقَدْ يُقْصَدُ بِهِ تَعْجِيلُ الْعَمَلِ؛ فَلَا يَخْرُجُ الْعَقْدُ عَنْ مَوْضُوعِهِ، مَعَ الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، بِخِلَافِ مَا لَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِصْنَاعَ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِصْنَاعَ لَا يُقْصَدُ بِضَرْبِ الْأَجَلِ فِيهِ تَعْجِيلُ الْعَمَلِ؛ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ، وَذَلِكَ بِالسَّلَمِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ إذَا ضَرَبَ فِيهِ أَجَلًا؛ فَقَدْ أَتَى بِمَعْنَى السَّلَمِ؛ إذْ هُوَ عَقْدٌ عَلَى مَبِيعٍ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلًا، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِمَعَانِيهَا لَا لِصُوَرِ الْأَلْفَاظِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ، وَكَذَا الْإِجَارَةُ، وَكَذَا النِّكَاحُ عَلَى أَصْلِنَا (وَلِهَذَا) صَارَ سَلَمًا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِصْنَاعَ - كَذَا هَذَا - وَلِأَنَّ التَّأْجِيلَ يَخْتَصُّ بِالدُّيُونِ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ وَتَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ إنَّمَا يَكُونُ فِي عَقْدٍ فِيهِ مُطَالَبَةٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا السَّلَمُ؛ إذْ لَا دَيْنَ فِي الِاسْتِصْنَاعِ أَلَا تَرَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خِيَارَ الِامْتِنَاعِ مِنْ الْعَمَلِ قَبْلَ الْعَمَلِ بِالِاتِّفَاقِ؟ ثُمَّ إذَا صَارَ سَلَمًا؛ يُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُ السَّلَمِ، فَإِنْ وُجِدَتْ صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا حُكْمُ الِاسْتِصْنَاعِ: فَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُسْتَصْنِعِ فِي الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ فِي الذِّمَّةِ، وَثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلصَّانِعِ فِي الثَّمَنِ مِلْكًا غَيْرَ لَازِمٍ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا صِفَةُ الِاسْتِصْنَاعِ: فَهِيَ أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ قَبْلَ الْعَمَلِ فِي الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا، بِلَا خِلَافٍ، حَتَّى كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خِيَارُ الِامْتِنَاعِ قَبْلَ الْعَمَلِ، كَالْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ الْخِيَارُ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ: أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْفَسْخَ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِمَا قُلْنَا.
وَإِنَّمَا عَرَفْنَا جَوَازَهُ اسْتِحْسَانًا؛ لِتَعَامُلِ النَّاسِ، فَبَقِيَ اللُّزُومُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ.
(وَأَمَّا) بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ الْمُسْتَصْنِعُ، فَكَذَلِكَ، حَتَّى كَانَ لِلصَّانِعِ أَنْ يَبِيعَهُ مِمَّنْ شَاءَ.
كَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ مَا وَقَعَ عَلَى عَيْنِ الْمَعْمُولِ، بَلْ عَلَى مِثْلِهِ فِي الذِّمَّةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى مِنْ مَكَان آخَرَ، وَسَلَّمَ إلَيْهِ؛ جَازَ، وَلَوْ بَاعَهُ الصَّانِعُ، وَأَرَادَ الْمُسْتَصْنِعُ أَنْ يُنْقِصَ الْبَيْعَ؛ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ؛ فَهُوَ كَالْبَائِعِ إذَا اسْتَهْلَكَ الْمَبِيعَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، كَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ فَأَمَّا إذَا أَحْضَرَ الصَّانِعُ الْعَيْنَ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ؛ فَقَدْ سَقَطَ خِيَارُ الصَّانِعِ، وَلِلْمُسْتَصْنِعِ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ