وَنَظِيرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ اسْتِدْلَالُنَا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ إرَادَةِ الْمَعْمُولِ مِنْ قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَمَا تَعْمَلُونَ فِي إثْبَاتِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ مِنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ وَخَلَقَ مَعْمُولَهُمْ، وَلَا مَعْمُولَ بِدُونِ الْعَمَلِ فَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمَعْمُولِ مَخْلُوقَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنْ شَكَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَقَ لَمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْإِعْتَاقِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الشُّكْرُ، فَإِذَا شَكَرَهُ فَقَدْ أَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَشَرٌّ لَك؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْعِوَضِ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ نُقْصَانًا فِي الثَّوَابِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ عَلَى عِوَضٍ، فَكَانَ ثَوَابُهُ أَقَلَّ مِمَّنْ أَعْتَقَ وَلَمْ يَصِلْ إلَيْهِ عَلَى إعْتَاقِهِ عِوَضٌ دُنْيَوِيٌّ أَصْلًا وَرَأْسًا، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَإِنْ كَفَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَك؛ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ إذَا خَلَا عَنْ عِوَضٍ دُنْيَوِيٍّ يَتَكَامَلُ ثَوَابُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَشَرٌّ لَهُ؛ لِأَنَّ شُكْرَ النِّعْمَةِ وَاجِبٌ عَقْلًا وَشَرْعًا، فَإِذَا لَمْ يَشْكُرْهُ فَقَدْ تَرَكَ الْوَاجِبَ، فَكَانَ شَرًّا لَهُ.
وَرُوِيَ أَنَّ مُعْتِقَ بِنْتِ حَمْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَاتَ وَتَرَكَ بِنْتًا، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِصْفَ مَالِهِ لِابْنَتِهِ، وَالنِّصْفَ لِابْنَةِ حَمْزَةَ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودِ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: الْوَلَاءُ لِلْكِبَرِ، فَاتِّفَاقُ هَؤُلَاءِ النُّجَبَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ بِدَلِيلِ سَمَاعِهِمْ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ مَا إنَّ هَذَا حُكْمٌ لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ، فَالظَّاهِرُ قَوْلُ السَّمَاعِ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَإِنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى ثُبُوتِ هَذَا الْوَلَاءِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْإِعْتَاقَ إنْعَامٌ إذْ الْمُعْتِقُ أَنْعَمَ عَلَى الْمُعْتَقِ بِإِيصَالِهِ إلَى شَرَفِ الْحُرِّيَّةِ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الْمَوْلَى الْأَسْفَلُ مَوْلَى النِّعْمَةِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ، وَكَذَا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْعَامًا، فَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي زَيْدٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ بِالْإِعْتَاقِ، فَجُعِلَ كَسْبُهُ عِنْدَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ لِمَوْلَاهُ شُكْرًا لِإِنْعَامِهِ السَّابِقِ، وَلِهَذَا لَا يَرِثُ الْمُعْتَقُ مِنْ الْمُعْتِقِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُعْتَقَ فِي نُصْرَةِ الْمُعْتِقِ حَالَ حَيَاتِهِ، وَلِهَذَا كَانَ عَقْلُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْصُرَهُ بِدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُ وَبِكَفِّهِ عَنْ الظُّلْمِ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِذَا جَنَى فَقَدْ قَصَّرَ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ النُّصْرَةِ، وَهُوَ كَفُّهُ عَنْ الظُّلْمِ عَلَى غَيْرِهِ فَجُعِلَ عَلَيْهِ ضَمَانًا لِلتَّقْصِيرِ، فَإِذَا مَاتَ جُعِلَ وَلَاؤُهُ لِمُعْتَقِهِ جَزَاءً لِلنُّصْرَةِ السَّابِقَةِ، وَالثَّالِثُ أَنَّ الْإِعْتَاقَ كَالْإِيلَادِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إحْيَاءٌ مَعْنًى، فَإِنَّ الْمُعْتِقَ سَبَبٌ لِحَيَاةِ الْمُعْتَقِ بِاكْتِسَابِ سَبَبِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ الَّتِي يَمْتَازُ بِهَا الْآدَمِيُّ عَنْ الْبَهَائِمِ، كَمَا أَنَّ الْأَبَ سَبَبُ حَيَاةِ الْوَلَدِ بِاكْتِسَابِ سَبَبِ وُجُودِهِ عَادَةً، وَهُوَ الْإِيلَادُ، ثُمَّ الْإِيلَادُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ النَّسَبِ، فَالْإِعْتَاقُ يَكُون سَبَبًا لِثُبُوتِ الْوَلَاءِ كَالْإِيلَادِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ.
فَبَعْدَ هَذَا يَقَعُ الْكَلَامُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ سَبَبِ ثُبُوتِهِ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الثُّبُوتِ وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الثَّابِتِ وَكَيْفِيَّتِهِ وَفِي بَيَانِ قَدْرِهِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ وَفِي بَيَانِ مَا يَظْهَرُ لَهُ أَمَّا.
سَبَبُ ثُبُوتِهِ فَالْعِتْقُ سَوَاءٌ كَانَ الْعِتْقُ حَاصِلًا بِصُنْعِهِ، وَهُوَ الْإِعْتَاقُ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْإِعْتَاقِ شَرْعًا كَشِرَاءِ الْقَرِيبِ وَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ أَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ بِأَنْ وَرِثَ قَرِيبَهُ وَسَوَاءً أَعْتَقَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ، أَوْ لِوَجْهِ الشَّيْطَانِ وَسَوَاءٌ أَعْتَقَهُ تَطَوُّعًا، أَوْ عَنْ وَاجِبٍ عَلَيْهِ كَالْإِعْتَاقِ عَنْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ وَالْإِيلَاءِ وَالْيَمِينِ وَالنَّذْرِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِعْتَاقُ بِغَيْرِ بَدَلٍ أَوْ بِبَدَلٍ، وَهُوَ الْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ وَسَوَاءٌ كَانَ مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ، أَوْ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ وَسَوَاءٌ كَانَ صَرِيحًا أَوْ يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ أَوْ كِنَايَةً أَوْ يَجْرِي مَجْرَى الْكِنَايَةِ.
وَكَذَا الْعِتْقُ الْحَاصِلُ بِالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ وَيَسْتَوِي فِيهِ صَرِيحُ التَّدْبِيرِ وَالْإِعْتَاقِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالْكِتَابَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَهُ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَعَلَى هَذَا إذَا أَمَرَ الْمَوْلَى غَيْرَهُ بِالْإِعْتَاقِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ أَنَّ الْوَلَاءَ لِلْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَقَعُ عَنْهُ وَلَوْ قَالَ لِآخَرَ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَعْتَقَ فَالْوَلَاءُ لِلْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَقَعُ عَنْهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لِلْمَأْمُورِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ أَمَرَ بِإِعْتَاقِ عَبْدِ الْغَيْرِ عَنْ نَفَسِهِ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَقَعُ بِدُونِ الْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ لِلْآمِرِ، بَلْ