الْكِتَابَةِ جَازَ وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ إعْتَاقُهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ فِي إعْتَاقِهِ الْوَلَدَ إبْطَالَ حَقِّ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ كَسْبَ وَلَدِهِ الْمَوْلُودِ وَالْمُشْتَرَى، وَبِالْإِعْتَاقِ يَبْطُلُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ؛ لِأَنَّ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُمْ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إنَّمَا يَسْعَى فِي حُرِّيَّةِ نَفَسِهِ وَأَوْلَادِهِ، وَقَدْ نَالَ هَذَا الْمَقْصُودَ، وَإِنَّمَا لَا يَسْقُطُ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ كُلَّهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ فَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْهُ بِعِتْقِ الْوَلَدِ.
وَلَوْ أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَوْ عَتَقَ كَانَتْ هِيَ أُمَّ وَلَدٍ عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ مُكَاتَبَةً بِكِتَابَتِهِ فَلَا تَعْتِقُ بِعِتْقِ الْمُكَاتَبِ.
وَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْمُكَاتَبِ بِغَيْرِ رِضَاهُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ الْمُكَاتَبِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَهُوَ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ، وَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْمُكَاتَبُ جَازَ وَيَكُونُ ذَلِكَ فَسْخًا لِلْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْجَوَازِ كَانَ لِحَقِّ الْمُكَاتَبِ فَإِذَا رَضِيَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبَ إذَا اجْتَمَعَا فِي الْبَيْعِ قَالَ: الْبَيْعُ لَا يَجُوزُ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَاعَهُ الْمَوْلَى بِرِضَاهُ فَقَدْ تَرَاضَيَا عَلَى الْفَسْخِ فَيَكُونُ إقَالَةً، وَالْكِتَابَةُ تَحْتَمِلُ الْإِقَالَةَ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ وَكَانَتْ مُكَاتَبَةً فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِرِضَاهَا، وَعَلَى هَذَا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْوَصِيَّةُ.
وَلَوْ كَاتَبَ جَارِيَةً لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَالِاسْتِمْتَاعُ بِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ انْتِفَاعٌ بِهَا، وَالْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ فِي مَنَافِعِهَا، وَلَوْ وَطِئَهَا غَرِمَ الْعُقْرَ لَهَا تَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَنْفَعَةٍ مَمْلُوكَةٍ لَهَا، وَلَوْ وَطِئَهَا فَعَلِقَتْ مِنْهُ ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ إذَا ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ، وَتَأْوِيلِ الْمِلْكِ، فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِحَقِيقَتِهِ أَوْلَى، صَدَّقَتْهُ الْمُكَاتَبَةُ أَوْ كَذَّبَتْهُ لِمَا مَرَّ، ثُمَّ إنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَعَلَيْهِ الْعُقْرُ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّة أَشْهُرٍ فَلَا عُقْرَ عَلَيْهِ، وَالْمُكَاتَبَةُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى كَتَابَتِهَا فَأَدَّتْ وَعَتَقَتْ وَأَخَذَتْ الْعُقْرَ إذَا كَانَ الْعُلُوقُ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ، وَإِنْ شَاءَتْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ، وَسَقَطَ الْعُقْرُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الِاسْتِيلَادِ.
وَلَوْ جَنَى الْمَوْلَى عَلَى الْمُكَاتَبِ غَرِمَ الْأَرْشَ لِيَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى الْكِتَابَةِ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَ شَيْئًا مِنْ كَسْبِهِ فَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ مِنْ الْمَوْلَى فَكَانَ فِي مَكَاسِبِهِ كَالْحُرِّ، وَكَذَا مَا اسْتَهْلَكَ الْمُكَاتَبُ مِنْ مَال الْمَوْلَى لِمَا قُلْنَا.
وَلَوْ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ امْرَأَتَهُ0 لَا يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ، وَكَذَا إذَا اشْتَرَتْ الْمُكَاتَبَةُ زَوْجَهَا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْمُكَاتَبِ حَقُّ الْمِلْكِ لَا حَقِيقَةَ الْمِلْكِ، وَحَقُّ الْمِلْكِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءً النِّكَاحَ وَلَا يَمْنَعُ الْبَقَاءَ كَالْعِدَّةِ إنَّهَا تَمْنَعُ مِنْ إنْشَاءِ النِّكَاحِ وَإِذَا طَرَأَتْ عَلَى النِّكَاحِ لَا تُبْطِلُهُ، وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الْمَوْلَى إذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ مُكَاتَبِهِ لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ بِمَوْتِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْبِنْتَ لَا تَمْلِكُ الْمَكَاتِبَ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ، بَلْ يَثْبُتُ لَهَا حَقُّ الْمِلْكِ فَيَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ الِابْتِدَاءِ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ الْبَقَاءِ فَكَذَا هَذَا.
وَلَوْ سَرَقَ مِنْهُ يَجِبُ الْقَطْعُ عَلَى السَّارِقِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ أَحَقُّ بِمَنَافِعِهِ وَمَكَاسِبِهِ، فَكَانَ لَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ فِيهِ كَالْحُرِّ فَيَقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ.
وَلَوْ جَنَى الْمُكَاتَبُ عَلَى إنْسَانٍ خَطَأً فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ الدَّفْعُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ، فَصَارَ كَالْعَبْدِ الْقِنِّ إذَا جَنَى جِنَايَةً ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ بِالْجِنَايَةِ.
وَالْحُكْمُ هُنَاكَ مَا ذَكَرْنَا فَكَذَا هَهُنَا، فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ فَعَلَيْهِ أَرْشُ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ لَا يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا دَفَعَ ذَلِكَ فَقَدْ سَقَطَ حَقُّهُ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْجِنَايَةِ تَعَلَّقَ بِالرَّقَبَةِ لِكَوْنِ الرَّقَبَةِ مِلْكَ الْمَوْلَى، وَهِيَ لَا تَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ جَنَى جِنَايَاتٍ خَطَأً قَبْلَ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ الْأُولَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ كَثُرَتْ جِنَايَاتُهُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَعِنْدَ زُفَرَ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ جِنَايَةٍ الْأَقَلُّ مِنْ أَرْشِهَا وَمِنْ قِيمَتِهِ، وَهَذَا فَرْعُ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَنَّ جِنَايَاتِهِ تَتَعَلَّقُ بِالرَّقَبَةِ أَوْ بِذِمَّتِهِ، فَعِنْدَنَا تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ، وَالرَّقَبَةُ لَا تَتَّسِعُ لِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَعِنْدَهُ تَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ، وَالذِّمَّةُ مُتَّسِعَةٌ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا ذَكَرْنَا إنَّ رَقَبَتَهُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى، فَإِنَّهَا مَقْدُورُ الدَّفْعِ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ يَعْجِزَ فَيَدْفَعَ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ الدَّفْعُ بِالْمَنْعِ السَّابِقِ، وَهُوَ الْكِتَابَةُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ جَنَى جِنَايَاتٍ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ بِهَا، وَهُنَاكَ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ كَذَلِكَ هَهُنَا، هَذَا إذَا جَنَى ثَانِيًا قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ بِالْأُولَى.
فَأَمَّا إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِالْأُولَى ثُمَّ جَنَى ثَانِيًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ قِيمَةٌ أُخْرَى بِالْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَقَدْ انْتَقَلَتْ الْجِنَايَةُ مِنْ رَقَبَتِهِ إلَى ذِمَّتِهِ