وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْمُسَافِرِينَ رَكْعَتَانِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُقِيمًا تَبَعًا.
وَقَدْ زَالَتْ التَّبَعِيَّةُ بِفَسَادِ الصَّلَاةِ فَعَادَ حُكْمُ الْمُسَافِرِينَ فِي حَقِّهِ.
(وَأَمَّا) الثَّالِثُ: فَهُوَ الدُّخُولُ فِي الْوَطَنِ، فَالْمُسَافِرُ إذَا دَخَلَ مِصْرَهُ صَارَ مُقِيمًا، سَوَاءٌ دَخَلَهَا لِلْإِقَامَةِ أَوْ لِلِاجْتِيَازِ أَوْ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ، وَالْخُرُوجِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْرُجُ مُسَافِرًا إلَى الْغَزَوَاتِ ثُمَّ يَعُودُ إلَى الْمَدِينَةِ وَلَا يُجَدِّدُ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ» .
وَلِأَنَّ مِصْرَهُ مُتَعَيَّنٌ لِلْإِقَامَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ، وَإِذَا قَرُبَ مِنْ مِصْرِهِ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَهُوَ مُسَافِرٌ مَا لَمْ يَدْخُلْ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ قَدِمَ الْكُوفَةَ مِنْ الْبَصْرَةِ صَلَّى صَلَاةَ السَّفَرِ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَى أَبْيَاتِ الْكُوفَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ لِلْمُسَافِرِ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ مَا لَمْ تَدْخُلْ مَنْزِلَكَ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مَوْضِعٌ لَوْ خَرَجَ إلَيْهِ عَلَى قَصْدِ السَّفَرِ يَصِيرُ مُسَافِرًا فَلَأَنْ يَبْقَى مُسَافِرًا بَعْدَ وُصُولِهِ إلَيْهِ أَوْلَى، وَذُكِرَ فِي الْعُيُونِ أَنَّ الصَّبِيَّ وَالْكَافِرَ إذَا خَرَجَا إلَى السَّفَرِ فَبَقِيَ إلَى مَقْصِدِهِمَا أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ فَأَسْلَمَ الْكَافِرُ وَبَلَغَ الصَّبِيُّ - فَإِنَّ الصَّبِيَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا وَالْكَافِرَ الَّذِي أَسْلَمَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ قَصْدَ السَّفَرِ صَحِيحٌ مِنْ الْكَافِرِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُصَلِّي لِكُفْرِهِ فَإِذَا أَسْلَمَ زَالَ الْمَانِعُ، فَأَمَّا الصَّبِيُّ: فَقَصْدُهُ السَّفَرَ لَمْ يَصِحَّ، وَحِينَ أَدْرَكَ لَمْ يَبْقَ إلَى مَقْصِدِهِ مُدَّةُ السَّفَرِ فَلَا يَصِيرُ مُسَافِرًا ابْتِدَاءً.
وَذُكِرَ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ أَنَّ مَنْ قَدِمَ مِنْ السَّفَرِ فَلَمَّا انْتَهَى قَرِيبًا مِنْ مِصْرِهِ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى بُيُوتِ مِصْرِهِ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ ثُمَّ أَحْدَثَ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَجِدْ الْمَاءَ فَدَخَلَ الْمِصْرَ لِيَتَوَضَّأَ - إنْ كَانَ إمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا فَحِينَ انْتَهَى إلَى بُيُوتِ مِصْرِهِ صَارَ مُقِيمًا، وَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا وَهُوَ مُدْرِكٌ فَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ الْإِمَامُ مِنْ صَلَاتِهِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ مَا صَارَ مُقِيمًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَاللَّاحِقُ إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ يَصِيرُ مُقِيمًا، فَكَذَا إذَا دَخَلَ مِصْرَهُ، وَإِنْ كَانَ فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ صَلَاتِهِ حِينَ انْتَهَى إلَى بُيُوتِ مِصْرِهِ لَا تَصِحُّ نِيَّةُ إقَامَتِهِ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ تَصِيرُ صَلَاتُهُ أَرْبَعًا بِالدُّخُولِ إلَى مِصْرِهِ، وَكَذَا بِنِيَّتِهِ الْإِقَامَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمُغَيِّرَ مَوْجُودٌ وَالْوَقْتَ بَاقٍ، فَكَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا لِلتَّغْيِيرِ، أَرْبَعًا؛ وَلِأَنَّ هَذَا إنْ اُعْتُبِرَ بِمَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ يَتَغَيَّرْ فَرْضُهُ وَإِنْ اُعْتُبِرَ بِالْمَسْبُوقِ يَتَغَيَّرْ.
(وَلَنَا) أَنَّ اللَّاحِقَ لَيْسَ بِمُنْفَرِدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا قِرَاءَةَ عَلَيْهِ وَلَا سُجُودَ سَهْوٍ؟ وَلَكِنَّهُ قَاضٍ مِثْلَ مَا انْعَقَدَ لَهُ تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَدَاءَ هَذِهِ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ، وَبِفَرَاغِ الْإِمَامِ فَاتَ الْأَدَاءُ مَعَهُ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَالْقَضَاءُ لَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ خَلَفٌ فَيُعْتَبَرُ بِحَالِ الْأَصْلِ وَهُوَ صَلَاةُ الْإِمَامِ، وَقَدْ خَرَجَ الْأَصْلُ عَنْ احْتِمَالِ التَّغْيِيرِ وَصَارَ مُقِيمًا عَلَى وَظِيفَةِ الْمُسَافِرِينَ، وَلَوْ تَغَيَّرَ الْخَلَفُ لَانْقَلَبَ أَصْلًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ مَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفُتْهُ الْأَدَاءُ مَعَ الْإِمَامِ فَلَمْ يَصِرْ قَضَاءً فَيَتَغَيَّرَ فَرْضُهُ، وَبِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ؛ لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ مَا سُبِقَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ أَدَاءَهُ مَعَ الْإِمَامِ، وَالْوَقْتُ بَاقٍ فَتَغَيَّرَ ثُمَّ إنَّمَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُ الْمُسَافِرِ بِصَيْرُورَتِهِ مُقِيمًا بِدُخُولِهِ مِصْرَهُ إذَا دَخَلَهُ فِي الْوَقْتِ، فَأَمَّا إذَا دَخَلَهُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَا يَتَغَيَّرُ؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ فَرْضُ السَّفَرِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِالدُّخُولِ فِي الْمِصْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِصَرِيحِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ، وَبِالْإِقَامَةِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ؟ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -.
مَطْلَبٌ فِي أَنَّ الْأَوْطَانَ ثَلَاثَةٌ (ثُمَّ) الْأَوْطَانُ ثَلَاثَةٌ: وَطَنٌ أَصْلِيٌّ: وَهُوَ وَطَنُ الْإِنْسَانِ فِي بَلْدَتِهِ أَوْ بَلْدَةٍ أُخْرَى اتَّخَذَهَا دَارًا وَتَوَطَّنَ بِهَا مَعَ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، وَلَيْسَ مِنْ قَصْدِهِ الِارْتِحَالُ عَنْهَا بَلْ التَّعَيُّشُ بِهَا.
(وَوَطَنُ) الْإِقَامَةِ: وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَمْكُثَ فِي مَوْضِعٍ صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ.
(وَوَطَنُ) السُّكْنَى: وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ الْإِنْسَانُ الْمُقَامَ فِي غَيْرِ بَلْدَتِهِ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَالْفَقِيهُ الْجَلِيلُ أَبُو أَحْمَدَ الْعِيَاضِي قَسَّمَ الْوَطَنَ إلَى قِسْمَيْنِ وَسَمَّى أَحَدَهُمَا وَطَنَ قَرَارٍ، وَالْآخَرَ مُسْتَعَارًا، فَالْوَطَنُ الْأَصْلِيُّ يَنْتَقِضُ بِمِثْلِهِ لَا غَيْرُ وَهُوَ: أَنْ يَتَوَطَّنَ الْإِنْسَانُ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى وَيَنْقُلَ الْأَهْلَ إلَيْهَا مِنْ بَلْدَتِهِ فَيَخْرُجَ الْأَوَّلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَطَنًا أَصْلِيًّا، حَتَّى لَوْ دَخَلَ فِيهِ مُسَافِرًا لَا تَصِيرُ صَلَاتُهُ أَرْبَعًا، وَأَصْلُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَكَانَ لَهُمْ بِهَا أَوْطَانٌ أَصْلِيَّةٌ، ثُمَّ لَمَّا هَاجَرُوا وَتَوَطَّنُوا بِالْمَدِينَةِ وَجَعَلُوهَا دَارًا لِأَنْفُسِهِمْ انْتَقَضَ وَطَنُهُمْ الْأَصْلِيُّ بِمَكَّةَ، حَتَّى كَانُوا إذَا أَتَوْا مَكَّةَ يُصَلُّونَ صَلَاةَ الْمُسَافِرِينَ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ صَلَّى بِهِمْ: «أَتِمُّوا يَا أَهْلَ مَكَّةَ صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» ؛ وَلِأَنَّ الشَّيْءَ جَازَ أَنْ يُنْسَخَ بِمِثْلِهِ، ثُمَّ الْوَطَنُ الْأَصْلِيُّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ وَدَارٌ فِي بَلْدَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ نِيَّةِ