إن معرفة «الإنسان» بهذه الحقائق الكبرى كما صورها هذا الدين هي بدء مولد «الإنسان» .. إنه بدون هذه المعرفة على هذا المستوى يمكن أن يكون «حيواناً» أو أن يكون «مشروع إنسان» في طريقه إلى التكوين! ولكنه لا يكون «الإنسان» في أكمل صورة للإنسان، إلا بمعرفة هذه الحقائق الكبيرة كما صورها القرآن ..

والمسافة بعيدة بعيدة بين هذه الصورة، وسائر الصور التي اصطنعها البشر في كل زمان! وإن تحقيق هذه الصورة في الحياة الإنسانية، لهو الذي يحقق «للإنسان» «إنسانيته» كاملة .. يحققها له وهو يخرجه بالتصور الاعتقادي، في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، من دائرة الحس الحيواني الذي لا يدرك إلا المحسوسات، إلى دائرة «التصور» الإنساني، الذي يدرك المحسوسات وما وراء المحسوسات.

عالم الشهادة وعالم الغيب .. عالم المادة وعالم ما وراء المادة .. وينقذه من ضيق الحس الحيواني المحدود! ويحققها له وهو يخرجه بتوحيد الله، من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده، والتساوي والتحرر والاستعلاء أمام كل من عداه. فإلى الله وحده يتجه بالعبادة، ومن الله وحده يتلقى المنهج والشريعة والنظام، وعلى الله وحده يتوكل ومنه وحده يخاف. ويحققها له، بالمنهج الرباني، حين يرفع اهتماماته ويهذب نوازعه، ويجمع طاقته للخير والبناء والارتقاء، والاستعلاء على نوازع الحيوان، ولذائذ البهيمة وانطلاق الأنعام! ولا يدرك حقيقة نعمة الله في هذا الدين، ولا يقدرها قدرها، من لم يعرف حقيقة الجاهلية ومن لم يذق ويلاتها- والجاهلية في كل زمان وفي كل مكان هي منهج الحياة الذي لم يشرعه الله- فهذا الذي عرف الجاهلية وذاق ويلاتها .. ويلاتها في التصور والاعتقاد، وويلاتها في واقع الحياة .. هو الذي يحس ويشعر، ويرى ويعلم، ويدرك ويتذوق حقيقة نعمة الله في هذا الدين ..

الذي يعرف ويعاني ويلات الضلال والعمى، وويلات الحيرة والتمزق، وويلات الضياع والخواء، في معتقدات الجاهلية وتصوراتها في كل زمان وفي كل مكان .. هو الذي يعرف ويتذوق نعمة الإيمان.

والذي يعرف ويعاني ويلات الطغيان والهوى، وويلات التخبط والاضطراب، وويلات التفريط والإفراط في كل أنظمة الحياة الجاهلية، هو الذي يعرف ويتذوق نعمة الحياة في ظل الإيمان بمنهج الإسلام.

ولقد كان العرب المخاطبون بهذا القرآن أول مرة، يعرفون ويدركون ويتذوقون هذه الكلمات. لأن مدلولاتها كانت متمثلة في حياتهم، في ذات الجيل الذي خوطب بهذا القرآن .. كانوا قد ذاقوا الجاهلية .. ذاقوا تصوراتها الاعتقادية. وذاقوا أوضاعها الاجتماعية. وذاقوا أخلاقها الفردية والجماعية. وبلوا من هذا كله ما يدركون معه حقيقة نعمة الله عليهم بهذا الدين وحقيقة فضل الله عليهم ومنته بالإسلام.

كان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية وساربهم في الطريق الصاعد، إلى القمة السامقة- كما فصلنا ذلك في مستهل سورة النساء - فإذا هم على القمة ينظرون من عل إلى سائر أمم الأرض من حولهم نظرتهم إلى ماضيهم في جاهليتهم كذلك.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015