وقعا وفق أسبابهما ووفق سنن الله الجارية في النصر والهزيمة. لتتعلم هذه الجماعة أسباب النصر والهزيمة. ولتزيد طاعة لله، وتوكلا عليه، والتصاقا بركنه. ولتعرف طبيعة هذا المنهج وتكاليفه معرفة اليقين.

ويمضي السياق يكشف للأمة المسلمة عن جوانب من حكمة الله فيما وقع من أحداث المعركة، وفيما وراء مداولة الأيام بين الناس، وفيما بعد تمييز الصفوف، وعلم الله للمؤمنين: «وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ» ..

وهو تعبير عجيب عن معنى عميق - إن الشهداء لمختارون. يختارهم الله من بين المجاهدين، ويتخذهم لنفسه - سبحانه - فما هي رزية إذن ولا خسارة أن يستشهد في سبيل الله من يستشهد. إنما هو اختيار وانتقاء، وتكريم واختصاص .. إن هؤلاء هم الذين اختصهم الله ورزقهم الشهادة، ليستخلصهم لنفسه - سبحانه - ويخصهم بقربه.

ثم هم شهداء يتخذهم الله، ويستشهدهم على هذا الحق الذي بعث به للناس. يستشهدهم فيؤدون الشهادة. يؤدونها أداء لا شبهة فيه، ولا مطعن عليه، ولا جدال حوله. يؤدونها بجهادهم حتى الموت في سبيل إحقاق هذا الحق، وتقريره في دنيا الناس. يطلب الله - سبحانه - منهم أداء هذه الشهادة، على أن ما جاءهم من عنده الحق، وعلى أنهم آمنوا به، وتجردوا له، وأعزوه حتى أرخصوا كل شيء دونه وعلى أن حياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحق وعلى أنهم هم استيقنوا هذا، فلم يألوا جهدا في كفاح الباطل وطرده من حياة الناس، وإقرار هذا الحق في عالمهم وتحقيق منهج الله في حكم الناس .. يستشهدهم الله على هذا كله فيشهدون. وتكون شهادتهم هي هذا الجهاد حتى الموت. وهي شهادة لا تقبل الجدال والمحال! وكل من ينطق بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. لا يقال له إنه شهد، إلا أن يؤدي مدلول هذه الشهادة ومقتضاها. ومدلولها هو ألا يتخذ إلا الله إليها. ومن ثم لا يتلقى الشريعة إلا من الله. فأخص خصائص الألوهية التشريع للعباد وأخص خصائص العبودية التلقي من الله .. ومدلولها كذلك ألا يتلقى من الله إلا عن محمد بما أنه رسول الله. ولا يعتمد مصدرا آخر للتلقي إلا هذا المصدر ..

ومقتضى هذه الشهادة أن يجاهد إذن لتصبح الألوهية لله وحده في الأرض، كما بلغها محمد - صلى الله عليه وسلم - فيصبح المنهج الذي أراده الله للناس، والذي بلغه عنه محمد - صلى الله عليه وسلم - هو المنهج السائد والغالب والمطاع، وهو النظام الذي يصرّف حياة الناس كلها بلا استثناء. في ظلال القرآن للسيد قطب-ط1 - (ص: 782)

- - - - - - - - - - - -

طور بواسطة نورين ميديا © 2015