والثالث: لا يجوز إلا أن يمضي بعد الاعتقاد وزمان العمل به، وإن لم يعمل به لاختصاص النسخ بتقدير مدة التكليف وذلك موجود بمضي زمانه، فإذا استقر النسخ بما بيناه لم يلزم فرضه قبل ظهوره من الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان فرضه لازمًا للرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا أظهره سقط عنه فرض الإبلاغ ولزم فرضه في الحال لكل من عمل به من الحاضرين. فأما فرضه على الغائبين عنه ففيه وجهان: أحدهما: يجب؛ لأن الله تعالى عمهم بفرضه ولم يخص به حاضرًا من غائب. والثاني: وهو الأشبه أنه لا يجب إلا بعد العلم، كما يلزم الحاضرين فرضه بعد إبلاغ الرسول صلى الله عليه وسلم وإن تقدم فرضه على الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك استدامة أهل قباء في صلاتهم إلى بيت المقدس وتحولوا إلى الكعبة وبنوا. وقال ابن عمر - رضي الله عنهما: كنا نخابر أربعين سنة لا نرى بذلك بأسًا حتى أخبرنا ابن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة فتركناها لقول رافع، ولم يتراجعوا فيما تقدم.

وأما القسم السادس في دلائل النسخ: [108/أ] وهو أن يرد في الشيء الواحد كلمات مختلفات، فهما ضربان:

أحدهما: أن يمكن استعمالها ولا يتنافى اجتماعهما وهو ضربان: أحدهما: أن يكون أعم من الآخر لعموم أحدهما وخصوص الآخر، فيقضي بالأخص على الأعم فيستثنى منه، كقوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، وقال تعالى فيمن أباح نكاحهن: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]، فقضى بعده بتلك، فصار كقوله تعالى: ولا تنكحوا إلا الكتابيات حتى يؤمن، وكان عمومًا مخصصًا ولم يكن ناسخًا ولا منسوخًا. والثاني: تتساوى الآيتان في جواز تخصيص كل واحد منهما بالآخر، كقوله تعالى: (وأن تجمعوا بين الأختين) [النساء: 23]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 5، 6]، فجاز أن يكون تحريم الجمع بين الأختين إلا بملك اليمين، وجاز أن يكون أباحه ملك اليمين إلا الجمع بين الأختين، فوجب الرجوع إلى دليل يوجب تخصيص إحديهما بالأخرى، ولذلك قال عثمان رضي الله عنه: أحلتهما آية وحرمتهما آية والتحريم أولى، فهذا فيما أمكن استعمال الحكمين المختلفين فيه، وأنه يحمل على التخصيص دون النسخ إلا أن يقوم دليل على النسخ فيعدل بالدليل على استعمال التخصيص النسخ كآية الوصايا وآية المواريث، فقد كان يمكن استعمالها من غير نسخ، ولكن روي عن الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم قالوا: نسخت آية المواريث آية الوصايا، فعدل عن استعمال التخصيص إلى النسخ.

والضرب الثاني: أن يتنافى الحكمان، ولا يمكن استعمالهما فيعلم مع التنافي أن أحدهما ناسخ للآخر فيرجع إلى دلائل النسخ، فيستدل بها على الناسخ والمنسوخ، وهي خمسة دلائل مرتبة بتقدم بعضها على بعض:

فأولها: أن يتقدم أحدهما ويتأخر الآخر، فيعلم أن المتأخر ناسخ للمتقدم. فإن قيل: [108/ب] قوله تعالى في العدة: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً}.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015