فإذا تقرر هذا وجب النظر في كل مقيد، فإذا ظهر دليل على عدم تأثيره سقط حكم التقييد وصار في عموم حكمه كالمطلق، وإن عدم الدليل وجب حمله على تقييده وجعل شرطًا في ثبوت حكمه.

وأما حكم المطلق الوارد من جنس المقيد إذا جعل التقييد شرطًا في المقيد، فظاهر مذهب الشافعي - رضي الله عنه - أنه يجب حمل المطلق على المقيد من جنسه ما لم يقم دليل على حمله على إطلاقه كما في العدالة في الشهود، وقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] يحمل على قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، وعلى هذا حمل إطلاق العتق في كفارة الظهار على العتق المقيد بالأيمان في كفارة القتل. وظاهر مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - أن المطلق محمول على إطلاقه ما لم يقم دليل [100/أ] على الحمل على المقيد من جنسه.

وذهب أصحابنا إلى أن حكم المطلق بعد المقيد من جنسه موقوف على الدليل، فإن قام الدليل على تقييده قيد، وإن لم يقم على واحد منهما دليل صار كالذي لم يرد فيه نص فيعدل فيه إلى غيره من أدلة الشرع والاجتهاد في استنباط المعاني، ويصير احتماله لأمرين مبطلاً لحكم النص فيه، وهذا قول من ذهب إلى وقف العموم حتى يقوم دليل على تخصيص أو عموم. وهذا أفسد المذاهب؛ لأن النصوص المحتملة يكون الاجتهاد عائدًا إليها ولا يعدل بالاحتمال إلى غيرها، ليكون حكم النص ثابتًا بما يؤدي إليه الاجتهاد من نفي الاحتمال عنه وتعيين المراد به. قال الإمام المارودي: "والذي عندي وأراه أولى المذاهب في المطلق والمقيّد أن يعتبر غلظ حكم المطلق والمقيد، فإن كان حكم المطلق أغلظ حمل على إطلاقه ولم يقيد إلى بدليل. وإن كان حكم المقيد أغلظ حمل المطلق على المقيد ولم يحمل على إطلاقه إلا بدليل؛ لأن التغليظ إلزام وما تضمنه الإلزام لم يسقط إلزامه بالإجمال". فإذا تقرر هذا الذي ذكرنا، ودب حمل المطلق على المقيد كان ذلك مستعملاً في إطلاق الصفة، ولا يكون مستعملاً في إطلاق الأصل، مثاله: أن مسح اليدين في التيمم مطلق، وفي الوضوء مقيد بالمرفقين فحمل عليه. وأطلق ذكر الرأس والرجلين في التيمم وذكرا في الوضوء، فلم يحتمل ترك ذكرهما في التيمم على إثبات ذكرهما في الوضوء؛ لأن ذكر المرافق سنة وذكر الرأس والرجلين أصل. وقال ابن خيران: المطلق يحمل على المقيد في الأصل أيضًا، فالله تعالى ذكر الإطعام في كفارة الظهار ولم يذكر في كفارة القتل فيحمل عليها. وفي هذا إثبات أصل بغير أصل، فإذا ثبت حمل المطلق على المقيد فهل وجب عليه حمله من طريق اللغة أو من طريق الشرع؟ وجهان:

أحدهما: من طريق اللغة؛ لأن في لسان العرب موضوع لهذا.

والثاني: بالشرع [100/ ب] المستقر على استنباط المعاني، لأن الأحكام لا تؤخذ إلا شرعًا من نص أو قياس.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015