بذلك الأئمة والقضاة بعده. وقال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المستشير معان والمستشار مؤتمن". وقد شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في أسارى بدرٍ، فأشار أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- بالفداء، وأشار عمر بالقتل، فأخذ برأي أبي بكر الصديق وفادى، فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67]، الآية، فقال صلى الله عليه وسلم: "لو نزل عذاب من السماء لما نجا منه إلا عمر بن الخطاب". وشاور أهل المدينة في شيئين؛ في حفر الخندق حتى اتفقوا عليه، وفي صلح الأحزاب على ثلث ثمار المدينة، فقالوا: إن كان الله أمرك بهذا فالسمع والطاعة لأمر الله تعالى، وإن كان غير ذلك فلا نطعمهم فينا فإنهم في الجاهلية لم يكونوا يصلون إلى ثمرة إلا بشراء أو قرى فامتنع. وشاور أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- الصحابة في الجدة أم الولد هل ترث؟ وشاورهم عمر -رضي الله عنه- في أم الأب وفي دية الجنين [92/ أ] التي أجهضت ما في بطنها. وشاورهم عثمان -رضي الله عنه- في الأحكام. وقال الزهري: قال أبو هريرة -رضي الله عنه- ما رأيت أحدًا أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال عمر بن عبد العزيز: القاضي لا ينبغي أن يكون قاضيًا حتى يكون فيه خمس خصالٍ؛ يكون عفيفًا حليمًا عالمًا بما كان قبله، مستشيرًا ذوي الألباب، لا يبالي بملامة الناس. ولأنه إذا شاور يكون أقطع للتهمة وأوضح لحكم المسألة، ويتنبه بالمشاورة ويتذكر بها ما نسيه. وقيل: كان علي -رضي الله عنه- قليل الاستشارة في الأحكام؛ لأنه قد شاهد استشارة من قبله فاكتفي بها. وقيل: لأنه لم يبق في عصره عديل يشاوره. وقيل: كان استشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور الدنيا ومصالحها. واختلف أصحابنا في استشارته في الدين والأحكام كاختلافهم، هل له أن يجتهد رأيه فيها، فقال بعضهم: ما استشار صلى الله عليه وسلم في الدين ولا في الأحكام؛ لأن الله تعالى قال: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3، 4]، وقال آخرون: استشارهم في الدين والأحكام، فمنه ما شاورهم في علامةٍ تكون لأوقات الصلوات، فأشار بعضهم بالناقوس وبعضهم بالقرن والقصة معروفة. وشاور أصحابه في حد الزنا والسارق، فقالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: "هن فواحش وفيهن عقوبة" حتى أنزل الله تعالى فيهما ما أنزل، [92/ ب] وهذا قول من جعل الاجتهاد رأيه فيها.

وأما غير رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة ومن بعدهم فمشاورتهم في مصالح الدنيا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015