ثم شهق شهقة عظيمة وغشي عليه، فأفاق بعد ساعة وهو يقول:
مذ تبدي لناظري ... بلبل الشوق وخاطري
حاضر غير غائب ... ساكن في الضمائر
هو كنزي الذي بدا ... في الرسوم والدوائر
قال الراوي: فدنوت منه وقلت له: يا سيدي ما علامة المحبين لله؟.
قال: إن المحبين عند ظلام الليل عند الله سبحانه وتعالى نشاطا، وبينهم وبينه انبساطا، شغلهم الأنس بمعبودهم عن لذة الكرى، وقطعهم الشغل به عن جميع الورى، ولا يؤثرون على مناجاته مناما، ولا يختارون على كلامه كلاما، عرفه من عرفه، وذاقه من ذاقه، واستأنس به من استطابه.
سبحان من حكم بالفناء على الخلائق، فتساوى عنده الملوك والعبيد، تفرّد بالبقاء، وتوحّد بالقدم، وصرف أقداره في الملك بما يريد، ظهر افتقار الكل إليه، الصالح والطالح والغويّ والرشيد، {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} الرحمن 29.
جواد غمر الكل عطاؤه، فأين يفر العاصي ومن يجبر الفقيد؟ كم جدّل القضاء من زعيم، وكم أدخل للحضر من طريد، ما أغفل أهل المعاصي عن قسمة العباد، فمنهم شقي ومنهم سعيد.
وأنشدوا:
احدى وستون لو مرّت على حجر ... لكان من حكمها إن يخلق الحجر
تؤمّل النفس آمالا لتبلغها ... كأنها لا ترى ما يصنع القدر
قال أبو إسحاق الجيلي: قدمت على علي بن عبد الحميد الغضائري، فوجدته أفضل خلق الله عبادة، وأكثرهم مجاهدة، وكان لا يتفرّغ من صلاته آناء ليله ونهاره، فانتظرت فراغه. فلم أصبه ولا وجدته.