ومنهم من ذهب إلى منع ذلك على الإطلاق، وبه قال الأكثر من أصحاب أبي حنيفة، وبعض أصحاب الشافعي، ومن أصحابنا أبو بكر الأبهري، وغيره، وهو قول المعتزلة.
ومن الناس من لم يطلق الجواب، بل فصله، فقال بعضهم يجوز تأخير البيان في الأوامر والنواهي دون الأخبار.
ومنهم من قال بالعكس.
وقال بعض الناس يجوز تأخير البيان في المجمل، ولا يجوز في العموم
وذكر بعض المصنفين قولا سادسا، وهو عكس هذا، وهذا القول السادس، وهو إجازة تأخير البيان في العموم ومنعه في المجمل، ولست أثق بنقله كما أثق بنقل المذاهب الخمس. وقد قال القاضي عبد الوهاب في بعض مصناته: ما أحد قال به، وأراه إنما نبه عليه، لأنه استراب نقله أيضًا، فلم ينقله مع جمله المذاهب، ولكنه رمز إليه بمثل هذا التنبيه عليه.
وإذا ورد بيان لمشكل، فهل يترقب وقوع بيان آخر بعده على القول بجواز تأخير البيان؟ اختلف الناس فيه أيضًا على أربعة أقوال:
فمنهم من أجاز ذلك في الثاني والثالث وما بعدهما، كما أجازه في الأول.
ومنهم من منع ذلك في الثاني وما بعده، وقدر أن ورود البيان الأول يشعر بانحسام طرق ترقب بيان آخر، لأن المخاطب جد في بيان ما أشكل فاقتضى الحال إكمال البيان.
ومنهم من أجاز ذلك في المجمل، ومنعه في العموم كإحدى المقالات المقولة في البيان الأول، فمنهم من منع تأخير الثاني، إلا أن يشعر المبين بأنه قد بقي بيان آخر، فحينئذ يجوز تأخير بيان بعد بيان.
وأما الوجه الثالث، وهو سبب الاختلاف بين أهل هذه المذاهب، فإنه مما ينبغي أن يعلم قبل الخوض في هذا أنا ذكرنا أن الكلام في هذه المسألة من أربعة أنحاء:
منها إثبات وقوع ذلك في الشرع، وأنت إذا اشتغلت بهذا الوجه وأثبتت وقوع ذلك في الشرع أغناك عن النظر في جواز وقوعه، وهذا كما قال المستدل بالسمع على أن الله تعالى يرى في القيامة يتضمن استدلاله جواز الرؤية، ويعينه عن إفراد ذلك بالذكر.