بهذه المقالة أن العلوم كلها ضرورية، وإن كانت مما يفتقر بعضها إلى فكرة، فيعود ذلك إلى أخذ المقالات في كيفية الوقوع.
وقد اختلف الناس أيضًا في كيفية الوقوع:
فمنهم من صار إلى أن العلوم كلها ضرورية، واختلف هؤلاء على ثلاث مقالات، فمنهم من زعم أن لا فكرة في جميعها.
ومنهم من زعم أن بعضها يفتقر إلى فكرة، ولكنه وإن افتقر إليها فإن الواقع عقيب الفكرة ضروري، ومنهم من زعم أن علوم العقائد خاصة هي الضرورية، وما سواها نظري.
ومنهم من قال: بل كلها كسبية، ويحكى ذلك عن بعض الجهمية، وهذا يشير إلى خلاف ظن أبي المعالي، فإن القول إن العلوم كلها نظرية ليس على ظاهره.
وقال أهل الحق: العلوم المحدثة على قسمين ضروري، ونظري، وقال بعضهم: ما كان من العلوم الضرورية لا ضرر فيه يسمى بديهيا، إشارة إلى مراعاة مأخذ اللفظ من اللغة، وأن الاضطرار افتعال من الضرر. وإن قلنا: إن الضرر بمعنى القهر والإكراه فلا معنى لهذه التفرقة في علوم الضرورة، لأنها كلها موجودة بغير اختيار الإنسان.
فأما من قصر العلم على الشرع فظاهر البطلان، لأن صحة الشرع إنما يعرف بالعقل، وأما من قصر العلم على الحس، فإنه إن قطع بصحة قوله فقطعه بها ليس من الحس، فقد تناقض في قوله.
وأما من حصر العلوم في النظر فيرد عليه بالمعلوم ضرورة من استغنى بعضها عن فكر، كعلم الإنسان بنفسه، ولذته، وألمه، وعلمه بما يراه، وأيضًا فلابد عند المكابرة من الاستناد إلى ضرورة لا يخالف فيها، فإذا بقيت الضرورية، بطل هذا الاستناد.
وبقية المذاهب سوى ما ذهبنا إليه يعرف إبطاله من هذا الذي قدمناه، وإذا انحصر الحق فيما ذهبنا إليه من تقسيم العلوم فبين أئمتنا خلاف في العلوم النظرية هل هي مكتسبة تقع بعد النظرة، بقدرة الناظر عليها أم لا؟
فالمشهور من مذهب أئمتنا أنها مفتقرة إلى قدرة كافتقار سائر الأفعال الكسبية، كحركة المختار للتحرك، وذهب بعض أئمتنا إلى استغنائها عن القدرة، ورأى أنها تقع اضطرارًا كحركة المرتعش استدلالاً منه على أن المفكر وإن كان مكتسبا بفكرته، ومقتدرا