استنبط الفقيه علته لا يحسن، لأن الظن المستفاد من نطق النبي عليه السلام من جهةه دلالة اللفظ والصيغ أولى من ظن يستفاد من قياس مستند إلى علة ظن الفقيه أنها مراد صاحب الشرع، وسيتضح هذا عند إقامة الدلالة على تقدمة الخبر على القياس.
وقد ذكر أبو المعالي أن اللفظ إذا كان ظاهره التعليل ولم يكن نصا فيه لا يترك بتأويل عضد بقياس استنبطه الفقيه، لأجل هذه العلة التي نبهنا عليها، ومثل هذا بقوله عليه السلام: "أينقص الرطب إذا جف؟ ". وقد تقدم كلامنا نحن على هذا الحديث، لكن لو عضد تأيوله بقياس مستند إلى تعليل استفيد من لفظ صاحب الشرع، ودل نطق صاحب الشرع عليه دلالة الظواهر للحق هذا بما يتعارض من الأخبار، وسيرد حكم ما تعارض منها.
وذكر أبو المعالي أنه إذ ألف من عادة علماء الشرع حملهم نواهي وردت في عقود على الفساد، فإنه لا يحسن تأويل خبر ورد فيما يناسبها على غير ما جرى عليه أمثاله، ومثل هذا بالنهي عن نكاح الشغار، وذكر أن الشافعي يمنع من تأويل هذا الخبر وحمله على الكراهة، ولم يسلم أبو المعالي هذه الطريقة في هذا، ورأى أن مثل هذا التأويل لا يبلغ في التعسف والإبعاد المبالغ التي ذكرناها في تأويلات المسائل السابقة، لا سيما وإن ألف هذا من الماضين في نواهي وردت في عقود البياعات، فإنه قد علم أن عقود النكاحات كأصل آخر في الشرع لا يراعي فيه ما يراعي في البياعات، وكثيرأ ما يفسد البيع ولا يفسد النكاح، هذا لا يعرفه الفقهاء، وهذا الذي قاله صحيح وله تعلق بأمر آخر يؤكده، يذكر في باب الأخبار، وهو قول الراوي: نهى عليه السلام عن كذا، وأمر بكذا، فإن هذا لحذاق الأصوليين فيه تنبيه ذكروه، ليس هذا موضعه.
وختم أبو المعالي كتاب التأويلات، فذكر رتبة أجزاء الكتاب (ص 187)، وأخبر أن أصول الفقه أدلته، وأدلته نطق صاحب الشرع، والإجماع، ومستنبط من نطق الشرع، فتعلق بنطق الشرع النظر في كتاب الأوامر، وكتاب العموم، وقد تقدم ذكرهما، وذكر أحكام النص، والمجمل، والظاهر، وذكر التأويلات، وسنذكر أحكام الأخبار، ثم الإجماع، والقياس، ثم الترجيح، ثم النسخ، ثم أوصاف المفتي، ثم نختم الغرض من الكتاب بالنظر في تصويب المجتهدين.
وهذا الذي اختاره أبو المعالي في الترتيب من تقدمة كتاب القياس على كتاب النسخ مما جرى الرسم بخلافه، لأن النسخ نظر في الأقوال الصادرة من صاحب الشرع، والقياس نظر فيا استنبط من أقواله. ولعله أخر ذلك لما كان المنسوخ بطل كونه دليلا، والقياس لم تبطل دلالته، والخطب في هذا يسير، والأمر هين، ونحن نجري في الترتيب على رسمه، فلا يختلف علم مطالع الكلام على جزء من أجزاء هذا العلم باختلاف وضعه في التأليف على هذه الطرق التي أشرنا إليها.