يستحيل أن يبصر، لأنها ليست بألوان ولا ذوات متلونة، فالعجب كل العدب من قطعهم على هذه المحال بخيال لا ينهض أن يفيد ظنا ضعيفا مثلا، فضلا عن القطع والتصميم على هذه المحال، بأن يقولوا: إذا فسد مقدم الدماغ فسد الحس المشترك، وإذا فسد وسطه فسد التصور والتخيل، وإذا فسد مؤخره فسد الحفظ والذكر. ولهذا شحن الأطباء مصنفاتهم في باب مداواة النسيان وسوء الحفظ بعلاج مؤخر الدماغ بالاستفراغات للخلط الذي كان عليه النسيان، واستعمل اللطوخات على مؤخر الدماغ المضادة للخلط الذي كان عنه النسيان، وهذا كما تراه في غاية الضعف.
أما فساد التخيل والتصور فمحسوس، أما استيلاء النسيان وبعد الحفظ لما يدرس ويقرأ فمعلوم أيضا، والناس متفاوتون في ذلك، إما في أصل تركيبهم، أو لأعراض تطرأ عليهم، فهذا القدر هو الذي نؤمن به، لأنه معنى محسوس، ومن فعل هذا فهو عندنا الله سبحانه، لما قام من الأدلة على وجوده تعالى ووحدانيته، وأنه خالق كل شيء، فما سوى هذا هنف لا يشتغل به (ص 106) محقق، ولا ينكر عقلا أن يكون الباري سبحانه الذي هذا كله من فعله، يفعل هذه الأمور ابتداء، أو يفعلها بعد أن يفعل أفعالا تتقدمها، يربط بعضها ببعض، سنة الله التي في خليقته، لا على أن ذلك أمر عقلي لابد منه، ولا يقدر الله سبحانه على فعل ما سواه، ولا يمكنه نقضه، ومن بنى قدر على أن يهدم، ومن ربط قدر على أن يحل، ولكنا لو أثبتنا هذه الرباطات، وهذه التعلقات لم يثبت منها إلا ما أدركه الحس والمشاهدة، أو قام عليه برهان، فالحس والمشاهدة معلوم أنهما لا يوجدان هاهنا، وبرهان لا يقوم على هذا أبدا، وبراهينهم هذه قد أوضحنا بطلانها.
والصحيح التصور والفكرة يكاد يستغنى عن معرف يعرفه أن هذه الأمور التي تمسكوا بها لا تؤدي إلى يقين وقطع أبدا، وإن تشوفت نفس بعض العقلاء إلى الإخلاد لشيء مما قالوه فتلك ظنون تقبلها النفس بسبب استنادهم إلى تخيلات حسنة كما قدمنا عنهم. وليت شعري كيف يعلم من مداواة عضو ما حل فيه في باطنه، أما الاستفراغ فلا يقدر بشيء على أن يجعله دليلا على شيء من هذه المحال، وإذا سقى الطبيب البلاذر، والإيارجات الكبار، واستفرغ خلط، أخرج من البدن، فمن أين يعلم أن هذا الخلط إنما ينبعث من آخر التجويف الثاني من الدماغ؟ هذا لا يدعيه عاقل، وكذلك إن وضع هناك لطوخا، لا سبيل إلى اليقين بأن ذلك محل ذاك، وإن كان هذا أقرب من دلالة الاستفراغ الذي شوهد الانتفاع بذلك اللطوخ في ذلك الموضع من ذلك المرض، وقد يمكن أن يكون ذلك المكان منه ينصب خلط إلى مكان آخر هو محل تلك القوة المشار إليها، أو يكون ذلك المكان فيه آلة من آلاتها