يسمعه، فلو كانت تأدية هذه الحواس الظاهرة إلى قوى باطنة متعددة لم يجد الإنسان فرقا بين مدرك ومدرك، لأن محل هذا غير محل هذا، فكل لا يحصل فيها إلا مدركها، فالفرق كيف يحس مع تباين القوتين، وتباين المدركين؟ وإنما يحس الفرق (ص 104) على ما قلناه من كون القوة واحدة اجتمع فيها أمران، ففرقت بينهما.

وهذه الحجة لا تساوي استماعها، وذلك أنا نطالبهم أولا بتخصيص ما قالوه من اشتراط الاتحاد، لأجل إحساس التفرقة، ونقول لهم: ما أنكرتم أن يكون الحس بالتفرقة في إحدى هاتين القوتين، فالقوتان جميعا أدركتا مدركين، واختصت إحداهما بزيادة مدرك آخر، وهو هذه التفرقة، ولا يستدرك أن تدرك القوة الواحدة مدركين مختلفين، ألا ترى إدراك البصر لمختلفات، وإدراك حاسة اللمس لمتضادات؟ فما المانع أن تكون إحدى هاتين القوتين أحق بهذه الزيادة من الأخرى؟ قيل لهم: وليس هي بأن تختص بهذا النوع من المحسوسات أولى من اختصاص الأخرى به. فإن قالوا: هكذا أبدعها مبدعها. قيل لهم: وهكذا أيضا أبدعها مبدعها دراكة لمحسوساتها، وللتفرقة المذكورة. على أنا لو سلمنا ما قالوه من هذا الاعتراض لقلنا: فقولوا: إن كل واحدة من القوتين حصل لها إدراك، وإدراك التفرقة بين محسوساتها ومحسوسات أخرى. ويقال لهم أيضا: ما أنكرتم أن يكون التفرقة غير حاصلة لواحدة من هاتين القوتين، وإنما لكل قوة إدراك محسوساتها خاصة، ثم العقل يحكم بالتفرقة بين المحسوسين، ولا يستنكر عاقل إدراك العقل حقائق كثيرة، وهي عندهم مع إدراك العقل لها تحل به، وهذا ما لا يجدون عنه جوابا محققا أبدا.

فإذا علمتم مذهبهم في هذه القوة الأولى التي يسمونها الحس المشترك، فلتعلم أن مذهبهم أن انطباع صور المدركات فيها لا يبقى، وإنما لها قبول الصور خاصة، وليس كل قابل لها حافظا، وتمثلوا بالماء فإنه يقبل الانطباع، ولكن ذلك الانطباع لا يبقى فيه. قالوا: ونحن نعلم أنا إذا غمضنا أبصارنا عن المدركات، وجدنا تمثالها وخيالها في أنفسنا، وقد فقدنا ذلك المعنى الذي أحسسناه عند فتح أبصارنا، فما ذلك إلا لأن هاهنا قوة أخرى في آخر هذا التجويف الأول من الدماغ ينطبع فيها الصور انطباعا يدوم، ويسمون هذه القوة خيالية.

وهذا مما يقال في إبطاله بعد إعادة جميع ما تقدم: ما أنكرتم أن تكون هذه القوة الأولى التي ذكرتموها من التي ينطبع فيها الخيال والتمثال بعد غيبة المبصرات؟ وإنما الفرق

طور بواسطة نورين ميديا © 2015