الاعتدال أبلغ من كمال النبات، فاستحق مع هذه النفس النباتية المغذية المنمية المولدة نفسا أخرى، وهي النفس الحيوانية، فاستحق بهذه النفس نفسا أخرى، وهي كونه محسا متحركا بإرادته وهذه أيضا قوة للحيوان لما اختص بهذا المعنى، [كما] قلنا: من حس وحركة بإرادة.
ولهذا الحيوان قوتان: محركة ومدركة، فالمحركة نوعان: شوقية، واختيارية، فالشوقية تبعث النفس على الحركة إلى ما يشتهي، والنفار عما يضر، والاختيارية هي المشاهدة من حركة أعضاء الحيوان (ص 103) وتصرفاتها.
والمدركة أيضا نوعان مدرك الصورة المتلونة بانطباعها في الهواء، ويتسلسل الانطباع حتى ينطبع في الرطوبة الجليدية التي في العين فتدركها هذه القوة.
وحاسة السمع، وهي قوة في العصب المفرق في الصماخ، بها تدرك الأصوات بتوسط تضاغط في الهواء، وتزاحمه عند قرعه، ثم ينطبع أيضا تلك الأصوات فيه بضرب من التموج، حتى يصل ذلك الهواء إلى الصماخ، فيتشكل بشكله فتدركه تلك القوة التي فيه.
وحاسة الشم، وهي زائدتان في الدماغ كحلمتي الثدي، يتخلل إليهما روائح الأجسام، فتدركها قوة بهاتين الزائدتين.
وكذلك حاسة الذوق، وهي قوة أيضا في العصب المفروش في سطح اللسان، يدرك طعوم الأجسام ذوات الطعوم.
وكذلك حاسة اللمس، قوة منبتة في سائر جلد الجسم، ولحمه، يدرك بها الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، والرخاوة، والصلابة، والملوسة، والخشونة.
فهذه مذاهبهم في القوة الحاسة الداركة، وأنت ترد عليهم في هذا بما قدمناه أولا، من كون هذه القوة لا يعقل معناها، ومن اشتراطهم تعددها بغير دليل، مع هذا التحكم أيضا في هذه التفاصيل، والرد عليهم في هذا التحكم مبسوط في كتب علم الكلام، أشبع فيها الرد عليهم في الانطباع والرد على المعتزلة، والأطباء في الشعاع، وهذا الانطباع أيضا لا يتحقق له معنى، وإن أشير به إلى عدم، فالعدم لا يدرك، وإن أشير به إلى وجود، فذلك الوجود إن كان عرضا فالعرض لا يصح انطباعه ولا انتقاله، وإن كان جسما فالأجسام المدركة أضعاف الرطوبة الجليدية، بما لا يكاد يضبط، لعظمه، فإن انطبع في الرطوبة جسم بمقدار الجسم المرئي، فمحال أن يرى الإنسان الجبل كله، وإن كان إنما ينطبع في الرطوبة