ثلاثة أفعال إلى ثلاثة فاعلين، أو تنسب إلى فاعل واحد، فما قلناه غير محال، ولا ممتنع تصوره، ولا هو مما لا ينعقل، وقد أقمنا عليه البرهان، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟

ثم أيضًا بعد هذين الوقفتين، قف معهم وقفة ثالثة، وقل لهم: هب أن سلمنا أن هذه الأفعال الصادرة عن قوى لا عن الله سبحانه الخلاق العليم، فلم كانت ثلاثة؟ وهلا كانت قوة واحدة؟ بها تكون التغذية، والتنمية، والتوليد، فهلا قلتم أيضا في هذه الثلاث: إنها مضافة إلى واحد؟ كما قلنا نحن: مضافة إلى واحد، وتخالفوها في هذا الواحد، هل هو الله سبحانه كما قلنا أو قوة واحدة؟

واعلم أنهم لا يجدون عن هذا الاعتراض جوابا أبدا، ولا خيالا يخيلون به على حسب عادتهم، وقد رأيت في كتاب عظيم عندهم من تأليف عظيم من أئمتهم المتأخرين جوابا عن هذا الاعتراض لا يحسن بالمحصل الاشتغال باستماعه، فضلا عن النظر في دفاعه (ص 102) ولكنا نورده ونجيب عنه، لعظم شأن من أورده عندهم، وذلك أنه ذكر أن القوة مبدأ الفعل بالقصد الأول، ومن المحال أن يكون شيء بالقصد الأول مبدأ لشيء، ومبدأ لآخر، وإنما يكون مبدأ لما يلي فقط، وهذا كما تراه في غاية الوهي والضعف، وذلك أنا نقول له: إن أردت بالمبدأ هاهنا أن هذا الشيء أول لهذا الشيء، على جهة أنه جزء منه، ولكن هذا الجزء هو أول أجزائه، كما تقول هذه النقطة أول هذا الخط، فصدقت فيما قلت: إنه محال أن يكون هذا الشيء أول لشيئين مختلفين كما [أنه] من المحال أن تكون النقطة الواحدة نهاية لخطين مختلفين متجاورين.

ولكن يبقى عليك السؤال في أصل الاستدلال، لا في هذا الانفصال، فيقال: هل لك هذا الجزء الذي هو أول الخط مثلا، ما مبدأه هو أيضا؟ فإن قلت لا مبدأ له ولا سبب ولا فاعل. قيل لك: فبقية الأجزاء كذلك للمشابهة له، ولا يمتري عاقل أنه إذا جاز وقوع جزء من غير سبب ولا فاعل، صح وقوع جزء آخر يشبهه عن غير سبب ومن غير فاعل. ومن جوز أن يقع ربع خط مثلا من غير خاط، جوز أن يقع بقيته من غير خاط، وهذا معلوم صحته على الضرورة والبديهة، وفي هذا إن مرورا عليه إنكار القوة أصلا، التي قالوا: إنه مبدأ لهذا الفعل.

وإن قالوا: هذا مبدأ ليس هو من أجزاء هذا الانفعال، ولا يعني قولنا: إنه أول له، أنه نهاية فيه من أحد طرفيه، كما يقال: أول هذا الخط هذه النقطة، وإنما نريد بقولنا: مبدأه، أن هذا الفعل يكون عنه، قيل لهم: قد أحلتم هاهنا أن يكون عن الشيء الواحد

طور بواسطة نورين ميديا © 2015