افعل، وأحس نسه قائلة له قبل نطقه به، والقول: افعل، عبارة عن هذا الذي أحسه من نفسه، والعبارة عن كيفية نظم الحروف لا يكون بالقول: افعل، وإنما صفة العبارة عن ذلك أن يقول في نفسه: الألف قبل الفاء، والفاء قبل العين، والعين قبل اللام، وهذا المعنى نعلمه حقيقة، ويقارن علمه حديث في نفسه عنه، مطابق لهذا العلم، فقد بان أن الحقيقتين مختلفتان، وأن الذي قالوه تلبيس وتدليس.
وكذلك صرفهم هذا إلى إرادة امتثال الأمر، بناء منهم على أصلهم من [أن] الآمر لا يأمر إلا بما يريد خطأ أيضا، لأنا نجوز أن يأمر الإنسان منا بما لا يريد، ومن تخوف عاقبة طاعة قوم له، وانتفع بمعصيتهم إذا أمرهم، فلا شك أنه لا يريد أن يطيعه فيما أمرهم به، ولو شكا عبد سيده للسلطان أنه أسرف في عقابه، فأراد السلطان عقاب السيد، وعلم السيد أن السلطان يعذره إذا اطلع على عصيان عبده له، لاقتضى الحال أنه إذا أمره بين يدي السلطان، أن مراد السيد أن يعصيه، لا أن يطيعه، فلا معنى لقولهم: ليس هذا بأمر، وإنما هو اختيار، لأنه قد يفهم عن السيد من قرينة الحال أنه أمر عبده أمرا جازما منه أن يعصيه.
وأيضا فإن غرضهم بهذا إثبات كون الباري سبحانه مريدا من الكافر الإيمان لأمره به، وقد علموا عقلا أن الباري علام الغيوب، وأنه يعلم أن الكافر الذي نفذ فيه قدره أن لا يؤمن، ويموت على الكفر أنه لا يطيعه، ولم يستحل منه أمره لأجل علمه أنه لا يمتثل ما أمر به، ولم يكن هذا كالمتناقض أن يأمر الإنسان بما لا يريده منه (لحت ...) عليه، وعلما على عقابه، فقد تقدم قولنا: إن النسخ (...) ثابت مستقر، وليس ببيان لمدة انقضاء العبادة (...).
وأبطلنا قولهم إنه بيان [لمدة] (ص 70) انقطاع العبادة، ثبت لنا منه، أن المنسوخ أمر به، على التأبيد، ولم يرد إيقاعه على التأبيد ولو لم يكن في هذا إلا أمر الله سبحانه إبراهيم نبي الله عليه السلام بذبح ولده إسحاق أو إسماعيل على اختلاف العلماء في الذبيح من هو منهما، وقد علم أنه لم يذبح، فقد أمر بالذبح ولم يرد وقوع الذبح لأنه سبحانه نسخ هذا الأمر عن إبراهيم قبل أن يذبح، وفدي ولده بذبح عظيم، وإبراهيم مطيع أولا وآخرا.
فقد ثبت أنه أمر بما لم يرد، وهذا لا حيلة لهم فيه، إلا اعتذارات يهزأ بها، كقول