وجد مَرِيضا لَيْسَ بَينه وَبَينه عَدَاوَة وَلَا لَهُ فِي تعذيبه حَاجَة أَلْبَتَّة وَلَا غَرَض لَهُ وَلَا دَاعِي وَلَا لَهُ ذَنْب وَلَا عَلَيْهِ حجَّة فَأمر بتكليفه حمل الْجبَال أَو مَا لَا يُطيق من الاحمال ومسابقة الرِّيَاح والحيل السَّابِقَة فان لم يفعل مَا لَا يُطيق من ذَلِك عذب أَشد الْعَذَاب وعوقب أفحش الْعقَاب فَمَا كَانَ هَذَا من فَاجر وَلَا كَافِر وَلَا خليع وَلَا سخيف وَلَا يجوز أَن يكون مِنْهُم وَلَو فعل مَخْلُوق لَكَانَ الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي يشْتَد عَلَيْهِ غَضَبه وَسخطه ويتولى عُقُوبَته وملامته وإذاقته أعظم الخزي الهوان والمقت والفضوح فَكيف ينْسب جَوَاز ذَلِك بل وُقُوعه وتجويز أفحش مَا يكون من جَمِيع أَنْوَاعه الْفَاحِشَة إِلَى الْملك الْعلي الحميد الصَّمد الْمجِيد السبوح القدوس الَّذِي كره ذَلِك وَسخطه وَحرمه ويعادي على أقل مِنْهُ كل جَبَّار عنيد وَقَالَ فِي كِتَابه الْمجِيد {وَمَا رَبك بظلام للعبيد} وَقَالَ على لِسَان رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله يَا عبَادي إِنِّي حرمت الظُّلم على نَفسِي وَجَعَلته محرما بَيْنكُم فَلَا تظلموا كَمَا رَوَاهُ مُسلم فِي الصَّحِيح عَن حَدِيث أبي ذَر الْغِفَارِيّ رَضِي الله عَنهُ
وَمن الشّبَه فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى {فَإِذا خفت عَلَيْهِ فألقيه فِي اليم وَلَا تخافي وَلَا تحزني} قَالُوا فَحرم عَلَيْهَا الْخَوْف والحزن فِي هَذِه الْحَال وكلفها اعدامهما عَن قَلبهَا وَهِي لَا تَسْتَطِيع ذَلِك
وَالْجَوَاب أَن النَّهْي هُنَا لم يرد للتَّحْرِيم فقد ذكر السُّبْكِيّ فِي جمع الْجَوَامِع للنَّهْي ثَمَانِيَة معَان أَحدهَا بَيَان الْعَاقِبَة كَمَا فِي هَذِه الْآيَة الشَّرِيفَة وَذَلِكَ أَن النَّهْي فِيهَا إِنَّمَا ورد للبشرى بِوُقُوع مَا لَا يَنْبَغِي عِنْده الْخَوْف والحزن فانه مقَام تكريم لَا مقَام تَكْلِيف وَلذَلِك عقبه بقوله {إِنَّا رادوه إِلَيْك وجاعلوه من الْمُرْسلين} وَهَاتَانِ بشارتان عظيمتان مِمَّن علمت صدقه فِي كل خبر وَقدرته على كل شَيْء واحاطة علمه بِكُل غيب فَهِيَ تقَابل مَا فِي طبعها البشري مَعَ مَا ذكره الله تَعَالَى بعد ذَلِك من ربطه على قَلبهَا
يُوضحهُ أَنه مقَام لطف وتشريف لَا مقَام تحريج وتعنيف وَلَو سلمنَا أَنه نهي تَحْرِيم لوَجَبَ فِي حِكْمَة الله تَعَالَى وعوائده مَعَ عباده الْمُؤمنِينَ