وقال بعضهم: إن الرجلين ليقومان في الصف، وبين صلاتهما كما بين السماء والأرض.
ولهذا قال ابن عباس وغيره: صلاة ركعتين في تفكر خير من قيام ليلة والقلب ساهٍ.
إن القلب هو محل نظر الله عز وجل، ومن ثمَّ فإن الأعمال تتفاضل عنده سبحانه بتفاضل ما في القلوب من إيمان ومحبة وإخلاص وخشية له، مع الأخذ في الاعتبار ضرورة موافقة هذه الأعمال للشرع ..
و لئن كان السير إلى الله والقرب منه إنما يكون بالقلوب، فإن وسائل ذلك هي العبادات والأعمال الصالحة التي دلنا عليها القرآن والسنة، ولكي تتم الاستفادة من هذه الوسائل في تحقيق الهدف لابد من تحسينها والاهتمام بتفاعل القلب معها، أما إذا تم التعامل معها على أنها غايات فسيصبح همّ المرء إتيانها والإكثار منها بأي شكل كان دون النظر لحضور القلب وانتفاعه بها، فيؤدي هذا إلى غياب الأثر الإيجابي للعبادات والأعمال الصالحة في حياة الفرد.
ولعل الواقع الحالي للمسلمين خير دليل على أن هناك حلقةً مفقودةً بين العبادات وأثرها؛ فعلى الرغم من كثرة عدد المصلين في المساجد، وعلى الرغم من كثرة المتطوعين بالصيام والصدقات، والمتنفلين بالحج والعمرات، إلا أننا لا نرى الأثر المتوقع لهذه العبادات ... فما أسهل أن تجد مصليًا يكذب من أجل تحقيق مصلحة أو دفع مضرة! وما أكثر أن تجد قارئًا للقرآن متقنًا لتلاوته يسيء معاملة أهله ويذيقهم الويلات تلو الويلات! ... وما أكثر وما أكثر.
إن وجود هذا الانفصال بين العبادات وأثرها مردُّه - بالأساس - لتعاملٍ غير صحيح مع العبادات بحيث يفرغها من مضمونها الحقيقي، ويقصرها فقط على الناحية الشكلية، ولعل من أسباب هذا التعامل:
- تسليط الضوء على الأحاديث الواردة في فضائل الأعمال، وعدم ربطها بمقاصدها في تحقيق العبودية وزيادة الإيمان ..
- كذلك فإن من أسباب هذا التعامل: سهولة القيام بالطاعات من الناحية الشكلية فقط .. فالاجتهاد في تحقيق التجاوب القلبي مع البدني يحتاج إلى جهد - قد لا يريد الكثيرون بذله- وبالتالي يستسهلون ذلك التعامل الخاطئ.
- ومنها أيضًا: الشعور بالرضا عن النفس عند إنجاز (كَمّ) معتبر من العبادات، فالملاحظ أنه كلما نجح المرء في الانتهاء من أداء عمل شعر بالرضا عن نفسه، وهذا الشعور يدفعه دفعًا إلى الاستمرار في هذا الطريق.
و لعل أبلغ مثال يؤكد هذا الأمر هو تلاوة القرآن في رمضان، فالتسابق في إنجاز أكبر عدد من الختمات دون فهم ولا تدبر من أسبابه الشعور بالزهو والرضا عن النفس كلما ختم المسلم ختمة فيدفعه ذلك للبدء في ختمة أخرى وسرعة الانتهاء منها، وهكذا ...
ولئن كانت أسباب اهتمامنا بالقيام بظاهر العبادة دون جوهرها كثيرةً ومتعددةً، إلا أن أهم تلك الأسباب هي الرغبة في تحصيل الثواب المترتب عليها؛ فعلى سبيل المثال قراءة القرآن، هذه العبادة العظيمة التي من شأنها أن تحييَ القلب وتنيره وتشفيَه من أسقامه، قد تحوَّلت على ألسن الكثير من المسلمين إلى ألفاظ تُقرأ بلا فهم ولا تدبر ولا تأثر، بل أصبحت الغاية من التلاوة هي قطع المسافة بين فاتحة المصحف وخاتمته في أقل وقت ممكنٍ؛ أملًا في تحصيل الثواب، وذلك عملًا بقوله- صلى الله عليه وسلم-: «من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» (?).