"فلما صارت الخلافة في ولد العباس، واحتاجوا إلى سياسة الناس وتقلد لهم القضاء من تقلده من فقهاء العراق، ولم يكن ما معهم من العلم كافيا في السياسة العادلة، احتاجوا حينئذ إلى وضع ولاية المظالم، وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع. وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين حتى صار يقال: الشرع والسياسة. وهذا يدعو خصمه إلى الشرع وهذا يدعو إلى السياسة، سوغ حاكما أن يحكم بالشرع والآخر بالسياسة.

والسبب في ذلك إن الذين انتسبوا إلى الشرع قصروا في معرفة السنة، فصارت أمور كثيرة إذا حكموا ضيعوا الحقوق وعطلوا الحدود، حتى تسفك الدماء وتؤخذ الأموال، وتستباح الحرمات والذين انتسبوا إلى السياسة صاروا يسوسون بنوع من الرأي من غير اعتصام بالكتاب والسنة، وخيرهم الذين يحكم بلا هوى وتحرى العدل. وكثير يحكمون بالهوى، ويحابون القوي ومن يرشوهم ونحو ذلك"1.

وإذا كنا نقدر لابن تيمية هذا السبر العميق لتطور العلاقة بين رجال الفكر ورجال القوة، وإدراكه لخطورة الانتكاس الذي أصاب هذه العلاقة، إلا أننا لا نتفق معه على أن الانشقاق بدأ بحكم بني العباس، وإنما هو أمر بذرت بذوره بوصول "طلقاء مكة"، الذين أسلموا بعد الفتح إلى مراكز القيادة دون أن يمروا بسلسلة العمليات التربوية التي مر بها المهاجرون والأنصار2. فمنذ وصول -طلقاء مكة- إلى صفوف القيادة أخذوا ينافسون رجال الفقه، والفكر من المهاجرين والأنصار، ويحاولون الخروج على التقليد الذي أرسي في عصر النبوة، والخلافة الراشدة، وهو انقياد رجال القوة لرجال الفقه والعمل بإرشادهم وتوجيهاتهم، حتى إذا استكمل طلقاء مكة سيطرتهم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015