لا حق إثر سابق والليالي ... بالمقادير راحلات نزول

ومن ذلك قول أبي تمام يرثي محمد بن حميد الطوسي:

كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر ... وليس لعينٍ بم يفض ماؤها عذر

وهذه القصيدة هي التي قال أبو دلف العجلي فيها لأبي تمام: وددت والله أنها لك فيّ، فقال: بل أفدي الأمير بنفسي وأهلي، وأكون المقدم قبله. فقال: إنه لم يمت من رثي بهذا الشعر.

ومن البراعات التي يفهم منها الرثاء، وأن المرثي هاشمي أيضاً زيادة على ذلك، قول مهيار الديلمي يرثي أستاذه الشريف الرضي:

من جب غارب هاشم وسنامها ... ولوى لويا واستنزل مقامها

وغزا قريشاً بالبطاح فلفها ... بيدٍ وقوض عزها وخيامها

وأناخ في مضرٍ بكلكل خسفه ... يستام فاحتملت له ما سامها

من حل مكة فاستباح حريمها ... والبيت يشهد واستحل حرامها

ومضى بيثرب مزعجاً ما شاء من ... تلك القبور الطاهرات عظامها

يبكي النبي ويستهيج لفاطمٍ ... بالطف في أبنائها أيامها

الدين ممنوع الحمى من راعه ... والدار عالية البنا من رامها

أتناكرت أيدي الرجال سيوفها ... فاستسلمت أم أنكرت إسلامها

أم غلل ذا الحسبين حامي ذودها ... قدر أراح على العدو سهامها

وما أحسن قوله منها:

بكر النعي من الرضي بمالكٍ ... غاياتها متعودٍ أقدامها

كلح الصباح بموته عن ليلة ... نفضت على وجه الصباح ظلامها

صدع الحمام صفاة آل محمد ... صدع الرداء به وحل نظامها

بالفارس العلوي شق غبارها ... والناطق العربي شق كلامها

سلب العشيرة يومه مصباحها ... مصلاحها عما لها علامها

برهان حجتها التي بهرت به ... أعداءها وتقدمت أعمامها

وشقت هذه المرثية على جماعة ممن كان يحسد الرضي رضي الله عنه على الفضل في حياته، أن يرثي بمثلها بعد وفاته، فرثاه بقصيدة أخرى ومطلعها في براعة الاستهلال كالأولى، وهو:

أقريش لا لفمٍ أراك ولا يدِ ... فتواكلي غاض الندى وخلا الندي

وما زلت معجباً بقوله منها:

بكر النعي فقال أودى خيرها ... إن كان يصدق فالرضي هو الردي

وبراعات الاستهلال في المراثي، أكثر منها في غيرها، يشهد بذلك الاستقراء. ولنكتف في النظم منها بهذا المقدار. وأما ما وقع منها في النثر فكثير جداً، خصوصاً في خطب المتأخرين. وفي ديباجة هذا الشرح ما يقنع الطالب، فلا حاجة بنا إلى التطويل، بإثبات شيء من النثر.

وإذا قد ذكرنا جملة مقنعة من محاسن المطالع، فلنذكر جملة من مستهجناتها، ليحترز الناظر عن الوقوع في مثلها: قيل ما سمع أشد مباينة من قسمي بيت جميل في قوله:

ألا أيها النوام ويحكم هبوا ... نسائكم هل يقتل الرجل الحب

حكى صاحب الأغاني عن الهيثم بن عدي قال: قال لي صالح بن حسان يوماً: ما نصف بيت كأنه أعرابي في شملة، والآخر كأنه مخنث يتفكك؟ قلت: لا أدري، قال: أجلتك حولاً، قلت: لو أجلتني عشرة ما عرفت، قال أف لك، قد كنت أحسبك أجود ذهناً من هذا، قلت: فما هو؟ قال: قول جميل:

ألا أيها النوام ويحكم هبوا ... هذا كلام أعرابي، ثم قال

نسائكم هل يقتل الرجل الحب ... كأنه والله من مخنثي العقيق.

قال شيخ الأدب صلاح الدين الصفدي بعد نقله ذلك قلت: علم الله لولا إيراد النادرة، لاستحييت أن أكتب النصف الثاني، لأنه محلول إلى الغاية. والناس به قول الآخر:

مات الخليفة أيها الثقلان ... فكأنما أفطرت في رمضان

ويقولون في الأول عزى الثقلين، ثم إنه حل في الثاني. وأقول: إنه ليس بينهما نسبة في الانحلال. وقول جميل: إنما يحسن من مثل فريدة جارية الواثق، فإنها صنعت فيه لحناً وغنت به، وكانت بارعة الجمال. فإذا سمع منها كان مناسباً. وإلى بيت جميل أشار ابن نفاذة في قوله:

أهجرٌ وصد وافتراق وغربة ... وبين فيا لله كم يحمل الصبا

فقل لمحب نبه الركب سائلا ... ونام نعم قد يقتل الرجل الحب

انتهى كلام الصفدي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015