حوادث أيام تدور صروفها ... لهن مساوٍ مرة ومحاسن

وفي الحي بالميت الذي غيب الثرى ... فلا الملك مغبون ولا الموت غابن

وتبعه أبو تمام بالقصيدة التي أولها: ما للدموع تروم كل مرام، بقوله للواثق ويهنيه بالخلافة ويعزيه بالمعتصم. صرف القول فيها كيف شاء وأطنب كما أراد، واحتج وأسهب، وتقدم فيها على كل من سلك هذه الطريقة من الشعر.

يقول فيها:

لله أي حياة انبعثت لنا ... يوم الخميس وبعد أي حمامِ

أودى بخير أمام اضطربت به ... شعب الرجال وقام خير إمامِ

تلك الرزية لا رزية مثلها ... والقسم ليس كسائر الأقسام

إن أصبحت هضبات قدسَ أزالها ... قدرٌ فما زالت هضاب شمام

أو يفتقد ذو النون في الهيجا فقد ... دفع الإله لنا من الصمصام

أوجب منا غارب غدرا فقد ... رحنا بأتمك ذروة وسنام

هل غير بؤسي ساعة ألبستها=بنداك ما لبست من الأنعام

نقض كرجع الطرف قد أبرمته ... يا بن الخلائف أيما إبرام

ما أن رأى الأقوام شمساً قبلها ... أفلت ولم تعقبهم بظلام

أكرم بيومهم الذي ملكتهم ... في صدره وبعامهم من عام

وأراد ابن الزيات مجاراته فعلم من نفسه التقصير فاقتصر على قوله:

قد قلت إذا غيبوك واصطفقت ... عليك أيدٍ بالترب والطينِ

أذهب فنعم المعين كنت على ... الدنيا ونعم الظهير للدين

لن يجبر الله أمة فقدت ... مثلك إلا بمثل هارون

والجمع بين التهنية والتعزية في باب الافتنان أصعب مسلكاً من الجمع بين غيرهما من فنون الكلام، لشدة ما بينهما من التناقض.

ومن رائق ذلك قول أبي الفتيان محمد بن حيوس، يخاطب نصر بن محمود صاحب حلب مهنياً له بالملك، ومعزياً له في أبيه، وهي في قصيدة طويلة جيدة:

صبرنا على حكم الزمان الذي سطا ... على أنه لولاك لم يكن الصبرُ

عسرانا ببوسي لا يماثلها الأسى ... تقارن نعمى لا يقابلها الشكر

وما أحسن قوله فيها:

ثمانية لم تفترق مذ جمعتها ... فلا افترقت مادب عن ناظر شفرُ

يقينك والتقوى وجودك والغنى ... ولفظك والمعنى وعزمك والنصر

وأما ما افتن به الشاعر من النسب والحماسة، فمنه قول عنترة:

إن تغد في دوني القناع فإنني ... طب بأخذ الفارس المستلئمِ

فأول البيت نسيب وآخره حماسة، والمستلئم: الذي يلبس لبس لأمة حربه، وهي الدرع، وما أحسن مقابلته به قناع المرأة.

ومنه قول عبد الله بن طاهر بن الحسين الخزاعي، الملقب والده بذي اليمينين، وزير المأمون:

نحن قوم تذيبنا الحدق النج ... ل على أننا نذيب الحديدا

طوع أيدي الغرام تقتادنا الغي ... د ونقتاد بالطعان الأسودا

نملك الصيد ثم تملكنا البي ... ض المصونات أعيناً وخدودا

تتقي سخطنا الأسود ونخشى ... سخطة الخشف حين يبدي الصدودا

فترانا يوم الكريهة أحرا ... راً وفي السلم للحسان عبيدا

وقول أبي دلف العجلي:

أحبك يا ظلوم وأنت مني ... مكان الروح من جسد الجبانِ

ولو أني أقول مكان روحي ... خشيت عليك بادرة الطعان

وقول أبي فراس بن حمدان:

هوانا غريب شزب الخيل والقنا ... لنا كتب والباترات رسائلُ

أغرن على قلبي بخيل من الهوى ... وطارد عنهن الغزال المغازل

بأسهم لفظ لم تركب نصالها ... وأسياف لحظ ما جلتها الصياقل

وقائع قتلى الحب فيها كثيرة ... ولم يشتهر سيف ولا هز ذابل

أراميتي كل السهام مصيبة ... وأنت لي الرامي وكلي مقاتل

وإني لمقدام وعندك هائب ... وفي الحي سحبان وعندك بأقل

وقوله من قصيدة مطلعها:

لعل خيال العامرية زائر ... فيسعد مهجور ويسعد هاجرُ

وإني على طول الشماس على الصبا=أحن وتصبيني إليه الجآذر منها:

فيا نفس ما لاقيت من لاعج الهوى ... ويا قلب ما جرت عليك النواظر

ويا عفتي ما لي وما لك كلما ... هممت بأمرهم بي منك زاجر

كأن الحجا والصون والفضل والتقى ... لدى لربات الخدور ضرائر

وكم ليلة خضت الأسنة نحوها ... ولا هدأت عين ولا نام سامر

طور بواسطة نورين ميديا © 2015