المعنى، أخبر نفسك بما لا تثق بحصوله من الذكر والمجد الأثيل إذا حدثتها بعاقبة ما تحمله عليها من تحمل المشاق، فإن إخبارها بعدم الوثوق بما ترتجيه يقصر الأمل ويحقره فيثبطك عن السعي في طلب ما تروم، ويعقبه أسف المحروم.

وقول الحماسي:

فإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل.

فإن في ضيم النفس أن يتكلف الشجاعة والسماحة والعفة الصبر وغيرها.

وقد أخذه أبو تمام وزاد عليه في الإيجاز حيث قال:

وظلمت نفسك طالبا إنصافها ... فعجبت من مظلومة لم تظلم.

ومعناه أنك لما حملتها على ما يشق عليها، ويخالف هواها، فقد ظلمتها في الظاهر، وفي الحقيقة أنصفتها لما جلبت إليها ذكرا جميلا، ومجدا مؤثلا، وأعجب لهذا الظلم الجالب للإنصاف.

وقول الشريف الرضي:

مالوا إلى شعب الرحال وأسندوا ... أيدي الطعان إلى قلوب تخفق.

فإنه لما أراد أن يصف هؤلاء الجماعة بالشجاعة في أثناء وصفهم بالتعب بالغرام عبر عن ذلك بقوله: (أيدي الطعان) وهذا من نهاية الإيجاز.

الثاني هو إيجاز الحذف وفيه فوائد: منها، مجرد اختصار والاحتراز عن العبث لظهور المحذوف.

ومنها، التنبيه على أن الزمان متقاصر عن الإتيان بالمحذوف، والاشتغال بذكره يفضي إلى تفويت المهم، وهذه هي فائدة باب التحذير والإغراء وقد اجتمعا في قوله تعالى: (ناقة الله وسقياها) فنافه الله تحذير، بتقدير: ذروا، وسقياها إغراء بتقدير: الزموا.

ومنه، التفخيم والإعظام لما فيه من الإبهام. قال حازم في منهاج البلغاء: إنما يحسن الحذف لقوة الدلالة عليه، أو يقصد بها تعديد أشياء فيكون في تعدادها طول وسآمة فيحذف ويكتفي بدلالة الحال، وتترك النفس تجول في الأشياء المكتفى بالحال عن ذكرها. قال: ولهذا القصد يؤثر في المواضع التي بها التعجب والتهويل على النفوس. ومنه قوله تعالى في وصف أهل الجنة "حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها" فحذف الجواب، إذ كان وصف ما يجدونه ويلقونه عند ذلك لا يتناهى، فجعل الحذف دليلا على ضيق الكلام عن وصف ما يشاهدونه، وتركت النفوس تقدر ما شاءته ولا تبلغ مع ذلك كله ما هناك. وكذا قوله تعالى "ولو تروا إذا وقفوا على النار". أي لرأيت أمرا فظيعا لا تكاد تحيط به العبارة.

ومنها، التخفيف لكثرة دورانه في الكلام، كما في حذف حرف النداء نحو "يوسف أعرض".

ومنها، صيانة اللسان عنه تحقيرا، نحو "صم بكم" أي هم أو المنافقون.

ومنه، قصد العموم نحو "وإياك نستعين" أي على العبادة وعلى أمورنا كلها، و"والله يدعوا إلى دار السلام" أي كل أحد، إلى غير ذلك من الفوائد والأسباب.

ثم المحذوف إما جزء جملة، أو جملة، أو أكثر من الجملة: فالأول، إما مضاف نحو قوله تعالى "وأسأل القرية التي" أي أهلها، وقوله "حرمت عليكم الميتة" أي تناولها، لأن الحكم الشرعي إنما يتعلق بالأفعال دون الأجرام، وقوله تعالى "وأنعام حرمت ظهورها" أي منافع ظهورها، وهو أولى من تقدير الركوب، لأنهم حرموا ركوبها وتحميلها.

وعليه قول أبي النواس:

وإذا المطي بنا بلغنا محمدا ... فظهورهن على الرجال حرام.

أي منافع ظهورهن من الركوب والتحميل، لأن غرضه إراحتها من التعب بعد ذلك.

وأما موصوف كقوله:

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني.

أي ابن رجل جلا الأمور، أي كشفها. وأما صفة نحو "وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة" أي صحيحة، أو صالحة، أو نحو ذلك، بدليل ما قبله وهو قوله "فأردت أن أعيبها".

وإما شرط كقوله تعالى "أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي"، أي إن أرادوا وليا بحق فالله هو الولي بالحق ولا سواه. وأما جواب شرط كقوله تعالى "ولو جئنا بمثله مددا" أي لنفذ، أو غير ذلك مما هو مذكور في مظانه.

والثاني، هو كون المحذوف جملة، أما مسبب ذكر سببه كقوله تعالى "ليحق الحق ويبطل الباطل" أي فعل ما فعل، وقوله تعالى "وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة" أي أخبرناك.

ومنه قول المتنبي:

أتى الزمان بنوه في شبيبته ... فسرهم وأتيناه على الهرم.

أي فساءنا. وبالعكس، أي مسبب ذكر مسببه كقوله تعالى "فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم" أي فأسلمتم فتاب عليكم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015