عم الورى بيد سحنا يرشحها ... عطاؤه ليس يخشى فاقة النهم.

قال في شرحه: الشاهد فيه قولي: سحا عطاؤه، لأنهما رشحا باليد للنعمة دون الجارحة. انتهى، وفيه نظر ظاهر.

وبيت بديعيتي قولي:

إذا أتيت بترشح لمدحهم ... حلى لساني وجيدي فضل ذكرهم.

فذكر الجيد رشح وأهل لفظة حلى لاستخدامها بمعنى ألبسة الحلي، ولولاه لانحصرت في معنى جعله حلوا، والله أعلم.

الحذف.

حذفت ود سوى آل الرسول ولم ... أمدح سواهم ولم أحمد ولم أرم.

هذا النوع من مستخرجات الإمام أبي المعالي عز الدين بن الوهاب بن إبراهيم الزنجاني صاحب معيار النظار، وهو عبارة عن أن يحذف المتكلم من كلامه حرفا فأكثر من حروف الهجاء أو جميع الحروف المهملة، أو جميع المعجمة، بشرط عدم التكلف.

فالأول كالخطبة المعروفة بالمونقة لأمير المؤمنين (ع) إذ أخلاها من حرف الألف الذي هو أدخل في سائر الحروف في الكلام.

روى هشام بن محمد السائب الكلبي عن أبي صالح، أنه اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتذاكروا، أي الحروف أدخل في الكلام؟ فأجمعوا أن الألف أكثر دخولا، فخطب علي عليه السلام بهذه الخطبة ارتجالا، وسماها المونقة وهي: حمدت من عظمت منيته، وسبقت رحمته، وتمت كلمته؛ ونفذت مشيته: وبلغت حجته، وعدلت قضيته.

حمدته حمد مقر بربوبيته، متخضع لعبوديته، متنصل من خطيئته، معترف بتوحيده، مؤمل من ربه مغفرة تنجيه، يوم يشغل عن فصيلته وبنيه.

ونستعينه ونسترشده ونؤمن به ونتوكل عليه، وشهدت له بضمير مخلص مؤمن موقن، وفردته تفريد مؤمن متيقن، ووحدته توحيد عبد مذعن، ليس له شريك في ملكه، ولم يكن له ولي في صنعه، جل عن مشير ووزير، وتنزه عن مثل ونظير.

علم فستر، وبطن فخبر، وملك فقهر، وعصي فغفر، وحكم فعدل. لم يزل ولن يزول وليس كمثله شيء، وهو (قبل كل شيء و) وبعد كل شيء، رب متفرد بعزته، متملك بقوته، متقدس بعلوه، متكبر بسموه؛ ليس يدركه بصر، ولم يحط به نظر، قوي منيع بصير سميع، علي حكيم، رؤوف رحيم.

عجز عن وصفه من يصفه، وضل في نعته من يعرفه. قرب فبعد، وبعد فقرب، يجيب دعوة من يدعوه، ويرزق عبده ويحبوه، ذو لطف خفي، وبطش قوي؛ ورحمة موسعة، وعقوبة موجعة، رحمته جنة عريضة مونقة، وعقوبته جحيم موصدة موبقة.

شهدت ببعث محمد عبده ورسوله، صفيه وحبيبه وخليله، بعثه خير عصر، وفي حين فترة وكفر، رحمة لعبيده، ومنة لمزيده، ختم به نبوته؛ وقوى به حجته، فوعظ ونصح، وبلغ وكدح، رؤوف بكل مؤمن، ولي سخي زكي رضي؛ عليه رحمة وتسليم، وبركة وتكريم، من رب غفور رحيم، قريب مجيب.

وصيتكم معشر من حضرني بوصية ربكم، وذكرتكم بسنة نبيكم. فعليكم برهبة تسكن قلوبكم، وخشية تذري دموعكم، وتقية تنجيكم قبل يوم يذهلكم ويبليكم، يوم يفوز فيه من ثقل وزن حسنته، وخف وزن سيئته، ولتكن مسألتكم مسألة ذل وخضوع، وشكر وخشوع، (بتوبة ونزوع) وندم ورجوع. وليغتنم كل مغتنم منكم صحته قبل سقمه، وشبيبته قبل هرمه، وسعته قبل عدمه، وخلوته قبل شغله، وحضره قبل سفره، قبل هو يكبر ويهرم، ويمرض ويسقم، ويمله طبيبه، ويعرض عنه حبيبه، ويتغير عقله (وينقطع عمره 6) ثم قيل هو موعوك، وجسمه منهوك، ثم جد في نزع شديد، وحضره كل قريب وبعيد، فشخص ببصره، وطمح بنظره، ورشح جبينه، وسكن حنينه، وجذبت نفسه، ونكبت عرسه؛ وحفر رمسه؛ ويتم ولده، وتفرق عنه عدده، وقسم جمعه، وذهب بصره وسمعه، وغمض ومدد، ووجه وجرد، وغسل ونشف، وسجي وبسط له، وهيئ، ونشر عليه كفنه وشد منه ذقنه، وقمص وعمم، (ولف) وودع وسلم، وحمل فوق سرير، وصلي عليه بتكبير، ونقل من دور مزخرفة، وقصور مشيدة، وحجر منجدة، فجعل في ضريح ملحود، ولحد ضيق مرصود، بلبن منضود، مسقف بجلمود. وهيل عليه حفرة، وحثي عليه مدره، فتحقق حذره، ونسي خبره، ورجع عنه وليه ونسيبه، وتبدل به قريبه وحبيبه (وصفيه ونديمه) ، فهو حشو قبر ورهين، يسعى في جسمه دود قبره، ويسيل صديده من منخره، ويسحق بدنه ولحمه، وينشف دمه، ويرمي عظمه حتى يوم حشره، فينشر من قبره، حين ينفخ في صور، ويدعى لحشر ونشور.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015