أفيعلم ابن جدعان ما يراد منه بالثناء عليه، ولا يعلم الله تعلى ما يراد منه بالثناء عليه؟.

ومن أحسن التعريض من هذا الضرب ما كتبه عمرو بن مسعدة للمأمون في أمر بعض من استشفع به من أصحابه: أما بعد فإن أمير المؤمنين لم يجعلني في مراتب المستشفعين، وفي ابتدائي به في حق فلان تعدى طاعته. فوقع المأمون في جوابه: قد عرفنا تصريحك لفلان، وتعريضك لنفسك، وأجبناك إليهما.

وأما للملامة والتوبيخ كقوله تعالى: (وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت) والذب للوائد، دون المؤودة، ولكن جعل السؤال لها إهانة للوائد، وتوبيخا على ما ارتبكه، فأخرجه عن إستئهال أن يخاطب ويسئل عما فعله. وقوله تعالى لعيسى: (أنت قلت للناس اتخذوني وأمي ألهين من دون الله) ولا ذنب لعيسى عليه السلام، وإنما هو تعريض بمن عبدهما من النصارى، لكنه عدل من خطابهم إهانة لهم وتوبيخا.

وإما للإستدراج، وهو إرخاء العنان مع الخصم ليعثر حيث يراد تبكيته وإفحامه، وهو من مخادعات الأقوال والتصرفات الحسنة التي هي السحر الحلال، حيث يسمعه الحق على وجه لا يغضبه كقوله تعالى: (لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعلمون) لم يقل عما تجرمون احترازا عن التصريح بنسبة الجرم إليهم وإكتفاء بالتعريض في قوله تعالى: عما أجرمنا، لئلا يلبسوا جلد النمر، وليتفكروا في حالهم وحال مخالفيهم، فيدركوا بالتأمل ما هو الحق منهما.

وأما للاحتراز عن المخاشنة والمفاحشة، كما تقول معرضا بمن يؤذي المسلمين: المسلم من سلم المسلمون من لسان ويده، تتوسل بذلك إلى نفي الإسلام عنه، وكما تقول معرضا بمن يشرب الخمر ويعتقد حليتها وأنت تريد تفكيره: أنا لا أعتقد حل الخمر، تريد إثبات صفة الكفر. وهذا الضرب من التعريض هو أشهر ضروبه.

حكى الزمخشري في ربيع الأبرار قال: سمع إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة يحيى بن أكثم يغض من جده فقال: ما هذا جزاؤه منك، قال: حين فعل ماذا؟ قال: حين أباح النبيذ ودرء الحد عن اللوطي.

وحكى القاضي شمس الدين بن خلكان عن يحيى بن أكثم المذكور أيضاً: أنه كان إذا نظر إلى رجل يحفظ الفقه سأله عن الحديث، وإذا رآه يحفظ الحديث سأله عن النحو، وإذا رآه يحفظ النحو سأله عن الكلام، ليقطعه ويخجله، فدخل إليه رجل من خراسان ذكر أنه حافظ، فناظره فرآه مفننا فقال له: نظرت في الحديث؟ قال: نعم، قال: ما تحفظ من الأصول؟ قال: أحفظ عن أبي إسحاق عن الحارث أن عليا رضي الله عنه رجم لوطيا، فأمسك يحيا ولم يكلمه.

وكان يحيى قاضيا على عهد المأمون، وفيه يقول أحم بن نعيم: ط

قاض يرى الحد في الزناء ولا ... يرى على من يلوط من باس.

وذكر أبو العباس المبرد في كتاب الكامل: أن قتيبة بن مسلم لما فتح سمرقند أفضى إلى أثاث لم ير مثله، وآلات لم يسمع بمثلها، فأراد أن يري الناس عظم ما فتح الله عليه ويعرفهم أقدار القوم الذين ظهر عليهم، فأمر بدرا ففرشت وفي صحنها قدور يرتقى إليها بالسلام، فإذا بالحضين بن المنذر قد أقبل والناس جلوس على مراتبهم- والحضين شيخ كبير- فلما رآه عبد الله بن مسلم قال لأخيه قتيبة: أتئذن لي في معابثته، قال: لا ترده فإنه خبيث الجواب، فأبى عبد الله إلا أن يؤذن له- وكان عبد الله يضعف، وكان قد تسور حائطا إلى امرأة قبل ذلك- فأقبل على الحضين فقال: أمن الباب دخلت يا أبا ساسان؟ قال: أجل، أسن عمك عن تسور الحيطان، قال: أرأيت هذه القدور؟ قال: هي أعظم من ألا ترى، قال: ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها، قال: أجل، ولا عيلان، ولو رآها سمي شبعان ولم يسم عيلان.

فقال عبد الله: أتعرف يا أبا ساسان الذي يقول:

عز لنا وأمرنا وبكر بن وائل ... تجر خصاها تبتغي من تحالف.

قال: أعرفه وأعرف الذي يقول:

فأذى العزم من نادى منيرا ... ومن كانت له أسرى كلا.

وخيبة من يخيب عل غني ... وباهلة بن أعصر والرباب.

قال: أتعرف الذي يقول:

كأن فقاح الأزد حول ابن مسمع ... وقد عرقت أفواه بكر بن وائل.

قال: نعم أعرفه واعرف الذي يقول:

قوم قتيبة أمهم وأبوهم ... لولا قتيبة أصبحوا في مجهل.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015