قال الشيخ صفي الدين الحلي في شرح بديعيته: هذا النوع استخرجه أبو العلاء المعري عند شرحه شعر أبي الطيب المتنبي بالكتاب الذي سماه معجز أحمد، لما وقف على قوله:

يريد يداً عن ثوبها وهو قادر ... ويعصي الهوا في طيفها وهو راقد.

قال إنما أراد أبو الطيب: يرد يدا عن ثوبها وهو مستيقظ، بحيث تطيعه المطابقة في قافية البيت بقوله: راقد، فلما لم يطعه الوزن عدل عن لفظة راقد وهو من صنف التجنيس المقلوب، حيث لم يؤثر إخلاء البيت من إحدى صنا يع البديع، فقد عصته المطابقة، وأطاعه التجنيس. وهذا النوع لم يسمع له مثال بعد أبي العلاء المعري في سائر كتب البديع لقلة وقوعه، وتعذر اتفاقه، وإنما وقع للمتنبي نادرا. انتهى كلام الشيخ صفي الدين، وهو مأخوذ من كتاب تحرير التحبير لأبن أبي الإصبع.

واستشهد الأستاذ أبو بكر الخوارزمي على هذا النوع بقول المتنبي:

أرأيت همة ناقتي في ناقة ... نقلت يدا سرحا وخفا مجمرا.

قال: أراد أن يقول: خفا خفيفا ليتفق له جناس الاشتقاق، فلما لم يطعه الوزن ولا القافية عدل عن لفظة خفيف، إلى لفظة مجمر، لما فيها من معنى السرعة والخفة، فكان تجنيسا معنويا، فقد عصاه الجناس اللفظي، وأطاعه الجناس المعنوي. والمجمر اسم فاعل من أجمر البعير: إذا أسرع. والسرح بضمتين: السهلة السير.

قال ابن أبي الأصبع: تقريرهم هذا النوع، وجهه أن القوم أضربوا عن النظر فيه، أما لحسن ظنهم بالمعري وموضعه من الأدب، واعتقادهم فيه من العصمة من الخطأ والسهو وإما يكون مر عليهم ما مر عليه في بيت أبي الطيب المذكور أولا، وليس فيه شيء أطاع الشاعر، ولا شيء عصاه، ودليل ذلك قول المعري: إن المتنبي أراد (مستيقظا) ليحصل بينه وبين لفظه (راقد) طباق، فعصته لفظة (مستيقظ) لامتناعها من الدخول في هذا الوزن، وهذا محال، لأنه لو أراد ذلك لقال: يرد يدا عن ثوبها وهو ساهر، فكان يحصل له غرضه من الطباق ولم يعصه الوزن، وإنما أراد أن يكون في بيته جناس وطباق، فعدل عن لفظه (ساهر) إلى (قادر) لأن القادر (ساهر) وزيادة، وحصل بين (قادر وراقد) الطباق المعنوي، وجناس العكس.

ومذهب المتنبي ترجيح المعاني على الألفاظ، ولاسيما بالعدول عن الطباق اللفظي حصل في البيت الطباق والجناس معا. وما كان فيه الطباق والجناس معا أفضل مما ليس فيه سوى الطباق. ولو عدل المتنبي إلى ما قاله المعري لفاته هذا الفضل. انتهى كلام ابن أبي الأصبع. وتقريره هذا لا يجري في البيت الثاني لأبي الطيب الذي خرجه الخوارزمي على هذا كما لا يخفى.

وبيت بديعية الصفي الحلي قوله:

لهم تهلل وجه بالحياء كما ... مقصورة مستهل من أكفهم.

قال في شرحه: أراد أن يقول: لهم تهلل وجه بالحياء، وأكفهم مستهلة، ليحصل التجانس بين الحياء والحيا، فلما عصاه التجنيس، ولم يؤثر أخلاء البيت من صنعة البديع عدل إلى لفظة (مقصورة) التي هي ردف (الحيا) فأطاعه الأرداف والتوجيه والجناس المعنوي. انتهى ملخصا.

وتعقبه ابن حجة بأنه لو قال:

لهم تهلل وجه بالحيا كما ... لنا الحيا مستهل من أكفخم.

لحصل له ما أراد من الجناس. فدعوى العصيان هنا محال. انتهى.

وأنا أقول: يكفي الشاعر في دعوى العصيان أنه حاول ذلك في وقت النظم فلم يطعه، وإن أطاعه وأطاع غيره في وقت آخر. ألا ترى أن الشاعر قد يحاول نظم معنى من المعاني في وقت من الأوقات فلا يتسهل له، ويتسهل له في وقت آخر، وكفاك شاهدا على ذلك قول النابغة: أنه ليمضي علي وقت ولقلع ضرس من أضراسي أسهل علي من نظم بيت واحد.

وبيت بديعية الموصلي قوله:

أطاعه وعصاه المؤمنون ومن ... ناوى لدى الفرق بين الإنس والنعم.

قال في شرحه: أراد الطباق بين المؤمنين والكافرين، فعصاه الوزن وتعذرت المطابقة، فأتى بلفظ (ناوى) فأطاعته المطابقة وعصاه الوزن.

وتعقبه ابن حجة أيضاً بأنه لو قال:

أطاعه وعصاه المؤمنون وجم ... ع الكافرين ولم يحفل بجمعهم.

لحصل له ما أراد من المطابقة بين المؤمنين والكافرين. والجواب عنه ما تقدم.

وبيت بديعية ابن حجة قوله:

طاعاتهم تقهر العصيان قدرهم ... له العلو فجانسه بمدحهم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015