ولما بلغت هذه القصيدة الحارث بن هشام قال، وهو أحسن ما قيل في الاعتذار عن الفرار:

الله أعلم ما تركت قتالهم ... حتى رموا فرسي بأشقر مزبدِ

وعلمت أني إن أقاتل واحداً ... أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي

فصددت عنهم والأحبة فيهم ... طمعاً لهم بعقاب يوم مفسد

وقد ذكر ابن حجة وغيره أبياتاً كثيرة، وعدوها من الاستطراد لا يعلم هل عاد الشاعر فيها إلى ما ابتدأ فيه من الكلام أم لا، فلا يقطع بكونها من هذا الباب حتى يعلم ذلك.

قال ابن أبي الحديد في الفلك الدائر على المثل السائر: ومما زعم صاحب كتاب المثل السائر أنه استطراد قول بعض شعراء الموصل يمدح الأمي قرواش بن المقلد وقد أمره أن يعبث بهجو وزيره سليمان بن فهد وحاجبه أبي جابر، ومغنيه البرقعيدي، في ليلة من ليالي الشتاء، وأراد بذلك الدعابة والولع بهم وهم في مجلس الشراب:

وليل كوجه البرقعيدي ظلمة ... وبرد أغانيه وطول قرونه

سريت ونومي فيه نوم مشرد ... كعقل سليمان بن فهد ودينه

على أبلق فيه التفات كأنه ... أبو جابر في خبطه وجنونه

إلى أن بدى ضوء الصباح كأنه ... سنا وجه قرواش وضوء جبينه

وليس من الاستطراد في شيء، لأن الشاعر قصد هجاء كل واحد منهم ووضع الأبيات لذلك، ومضمون الأبيات كله مقصود له، فكيف يكون استطراد؟. انتهى.

قلت: وقد أورد هذه الأبيات القاضي ابن خلكان في تاريخه في ترجمة المقلد بن المسيب قال: ومن جملة شعراء دمية القصر، الطاهر الجزري وقد مدح قرواشاً بقوله وهو في نهاية الحسن في باب الاستطراد، ثم أورد الأبيات وقال بعدها: ولشرف الدين بن عنين الشاعر على هذا الأسلوب في فقيهين كانا بدمشق، ينبز أحدهما بالبغل والآخر بالجاموس وهو:

البغل والجاموس في جدليهما ... قد أصبحا عظة لكل مناظرِ

برزا عشية ليلة فتباحثا ... هذا بقرنيه وذا بالحافر

لم يتقنا غير الصياح كأنما ... لقنا جدال المرتضى ابن عساكر

لفظ طويل تحت معنى قاصر ... كالعقل في عبد اللطيف الناظر

اثنان مالهما وحقك ثالث ... إلا رقاعة مذلويه الشاعر

ولقد حكى لي بعض الأصحاب، أنه سأل ابن عنين عن أبيات الطاهر الجزري وأنه استحسن البناء عليها، فحلف أنه ما كان سمعها والله أعلم.

ومذلويه المذكور لقب كان ينبز به الرشيد عبد الرحمن بن بدر النابلسي الشاعر المعروف. انتهى كلام ابن خلكان.

قلت: وفي قول ابن أبي الحديد: إن الأبيات المذكورة ليست من الاستطراد في شيء، نظر، فقد قال القزويني في الإيضاح: الاستطراد هو الانتقال من معنى إلى معنى آخر متصل به، لم يقصد بذكر الأول التوصل إلى ذكر الثاني، كقول الحماسي:

وأنا لقوم ما نرى الموت سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول

ثم قال: وقد يكون الثاني هو المقصود فيذكر الأول قبله ليتوصل إليه كقول أبي اسحاق الصابي:

إن كنت خنتك في المودة ساعة ... فذممت سيف الدولة المحمودا

وزعمت أن له شريكاً في العلى ... وجحدته في فضله التوحيدا

قسماً لو أن حالف بغموسها ... لغريم دين ما أراد مزيدا

قال: ولا بأس أن يسمى هذا إبهام الاستطراد. انتهى.

فالأبيات التي أنكر ابن أبي الحديد كونها من الاستطراد من هذا القبيل فاعلم.

وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته من هذا القبيل أيضاً وهو:

كأن آناء ليلي في تطاولها ... تسويف كاذب آمالي بقربهم

فإنه قدم أداة التشبيه ليتوصل إلى ما قصده من ذم كاذب الآمال.

وكذلك بيت ابن جابر الأندلسي في بديعيته وهو:

قد أفصح الضب تصديقاً ببعثته ... إفصاح قس وفهم القوم لم يهم

وبيت الشيخ عز الدين الموصلي:

يستطرد الشوق خيل الدمع سابقه ... فيفضل السحب فضل العرب للعجمِ

قال ابن حجة: الشيخ عز الدين أحرز قصبات السبق باستطراده هنا على الشيخ صفي الدين والعميان، مع التزامه تسمية النوع المورى به من جنس الغزل، ومراعاة جانب الرقة ونظم الاستطراد على الشرط المذكور.

وبيت ابن حجة قوله:

واستطردوا خيل صبري عنهم فكبت ... قصرت كليالينا بوصلهم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015