تقرير الاحتجاج: - لو كانت الإمارة حقا لهم لما كانت الوصية بهم, لكنها بهم فليست الإمارة لهم. بيان الملازمة أن العرف قاض بأن الوصية والشفاعة ونحوهما إنما يكون إلى الرئيس في حق المرؤوس من غير عكس. وإما بطلان الثاني فللخبر المذكور. وأما قوله عليه السلام: احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة, فهو كلام في قوة احتجاج له على قريش بمثل ما احتجوا به على الأنصار, وتقريره: إنهم إن كانوا أولى من الأنصار لكونهم شجرة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فنحن أولى لكوننا ثمرته, وللثمرة اختصاص بالشجرة من وجهين: أحدهما القرب وميزته ظاهرة. والثاني أن الثمرة هي المطلوبة بالذات من الشجرة وغرسها, فإن كانت الشجرة معتبرة, فبالأولى اعتبار الثمرة. وإن لم يلتفت إلى الثمرة فبالأولى لا التفات إلى الشجرة.

ويلزم من هذا الاحتجاج أحد أمرين: إما بقاء الأنصار على حجتهم لقيام هذه المعارضة, أو كونه عليه السلام أحق بهذا الأمر وهو المطلوب.

ومنه ما حكي أن الوليد قال لأبي الأقرع: أنشدني قولك في الخمر فأنشده:

كميت إذا شجت ففي الكاس وردها ... لها في عظام الشاربين دبيب

تريك القذى من دونها وهي دونه ... لوجه أخيها في الإناء قطوب

فقال الوليد: شربتها ورب الكعبة, فقال: لئن كان وصفي لها رابك لقد رابني معرفتك بها.

وقصد شاعر أبا دلف العجلي فقال: ممن أنت؟ قال: من تميم, فقال:

تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت طرق المكارم ضلت

قال: نعم بتلك الهداية جئتك, فخجل أبو دلف, واستكتمه وأجازه.

ومنه قول النابغة من قصيدة يعتذر فيها إلى النعمان بن المنذر وقد كان مدح آل جفنة بالشام فتنكر النعمان من ذلك:

حلفت فلم أترك لنفسي ريبة ... وليس وراء الله للمرء مطلب

لئن كنت قد بلغت عني خيانة ... لمبلغك الواشي أغش وأكذب

ولكنني كنت امرءاً لي جانب ... من الأرض فيه مستراد ومذهب

ملوك وأخوان إذا ما مدحتهم ... أحكم في أموالهم وأقرب

كفعلك في قوم أراك اصطنعتهم ... فلم تر هم في مدحهم لك أذنبوا

يعني لا تلمني, ولا تعاتبني على مدح آل جفنة وقد أحسنوا إلي, كما لا تلوم قوما مدحوك وقد أحسنت إليهم, فكما أن مدح أولئك لك لا يعد ذنبا, كذلك مدحي لمن أحسن إلي.

وهذه الحجة على صورة التمثيل الذي يسميه الفقهاء قياسا. ويمكن رده إلى صورة قياس استثنائي بأن يقال: لو كان مدحي لآل جفنة ذنبا, لكان مدح أولئك القوم لك أيضاً ذنبا, لكن اللازم باطل, وكذا الملزوم.

وقول مالك بن المرحل الأندلسي:

لو يكون الحب وصلا كله ... لم تكن غايته إلا الملل

أو يكون الحب هجرا كله ... لم تكن غايته إلا الأجل

إنما الوصل كمثل الماء لا ... يستطاب الماء إلا بالعلل

البيتان الأولان قياس شرطي, والثالث قياس فقهي, فإنه قاس الوصل على الماء, فكما أن الماء لا يستطاب إلا بعد العطش, فالوصل مثله لا يستطاب إلا بعد الهجر.

وقال الآخر:

دع النجوم لطرفي يعيش بها ... وبالعزائم فانهض أيها الملك

إن النبي وأصحاب النبي نهوا ... عن النجوم وقد أبصرت ما ملكوا

يعني لو كان الظفر والفوز بالمطالب بالنجوم لم يظفروا بشيء مما ظفروا به, لأنهم نهوا عنها, لكنهم مع ذلك ظفروا, فلم يكن الظفر بها.

ومنه قولي:

تريك إذا بدت ليلا محيا ... يضيق لوصفه وسع العباره

ولولا أنه قمر تجلى ... لما دار الخمار عليه داره

وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:

كم بين من أقسم الله العلي به ... وبين من جاء باسم الله في القسم

مدعاه تفضيله صلّى الله عليه وآله وسلّم على غيره من الأنبياء, واحتج على ذلك بقسم الله سبحانه به في قوله تعالى (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) ولم يقسم بغيره منهم, بل هم أقسموا به سبحانه؛ وشتان بين المنزلتين.

والعمر بالفتح بمعنى العمر بالضم, إلا أنهم خصوا القسم بالفتح لإيثار الأخف. قال المفسرون: خاطب سبحانه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم, وأقسم بحياته كرامة له, وما أقسم بحياة أحد قط, وذلك يدلك على أنه أكرم الخلق على الله سبحانه.

وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015