الثاني, ما دلالته معنوية, وأحسن شواهدها, ما روي أنه حين بلغت قراءته صلّى الله عليه وآله وسلّم في سورة المؤمنين إلى قوله تعالى (ثم أنشأناه خلقا آخر) قال عبد الله بن أبي سرح: (فتبارك الله أحسن الخالقين) فقال له صلّى الله عليه وآله وسلّم: أكتب هكذا نزل, فقال: إن كان محمد نبيا يوحى إليه, فأنا نبي يوحى إلي, ولحق مرتدا بمكة. فلما كان يوم الفتح أهدر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم دمه, فأستأمن له عثمان (وكان أخاه من الرضاعة) فأمنه وأسلم يومئذ.

ومن غريب أمثلة هذا النوع - لأنوع التوشيح كما زعم ابن حجة وغيره لما عرفته في وجوه الفرق بينهما - ما حكى جعفر بن سعيد بن عبيدة العماري قال: أتى عمر بن أبي ربيعة عبد الله بن العباس رضي الله عنهما وهو في حلقة في المسجد الحرام قال: أمتعني الله بك, إن نفسي قد تاقت إلى قول الشعر وقد أكثر الناس في الشعر, فجئت حتى أنشدك. فأقبل عليه عبد الله بن عباس فقال: هات, فأنشده: - (تشط غد دار جيراننا) فقال ابن عباس: - (وللدار بعد غد أبعد) فقال عمر: والله ما قلت إلا كذا, فقال ابن عباس: وهكذا يكون.

وقريب من ذلك ما يحكى أن عدي بن الرقاع أنشد الوليد بن عبد الملك بحضرة جرير والفرزدق قصيدته التي مطلعها: (عرف الديار توهما فأعتادها) حتى انتهى إلى قوله فيها: - (تزجي أغن كأن إبرة روقه) ثم شغل الوليد عن الاستماع بأمر عرض له فقطع عدي الإنشاد, فقال الفرزدق لجرير - في خلال ذلك -: ما تراه قائلا؟ فقال جرير: أراه يستلهب بها مثلا, فقال الفرزدق: إنه سيقول: - (قلم أصاب من الدواة مدادها) . فلما عاد الوليد إلى الاستماع, وعاد إلى الإنشاد قال كما قال الفرزدق. فقال الفرزدق: فو الله لقد سمعت صدر البيت فرحمته, فلما أنشد عجزه انقلبت الرحمة حسدا.

قال زكي الدين بن أبي الأصبع: الذي أقول: أن بين ابن العباس وبين الفرزدق في استخراجهما العجزين كما بينهما في مطلق الفضل, وفضل ابن العباس معلوم, وأنا أذكر الفرق. فإن بيت عدي بن الرقاع من جملة قصيدة تقدم سماع مطلعها مع معظمها, وعلم أنها دالية مردفة بألف, وهي من وزن قد عرف, ثم تقدم في صدر البيت ذكر ظبية تسوق خشفا لها قد أخذ الشاعر في تشبيه طرف قرنه, مع العلم بسواده, وهذه القرائن لا تخفى على أهل الذوق الصحيح, أن فيها ما يدل على عجز البيت, بحيث يسبق إليه من هو دون الفرزدق من حذاق الشعراء. وبيت عمر بيت مفرد لم تعلم قافيته من أي ضرب هي القوافي, ولا رويه من أي الحروف, ولا حركة رويه من أي ضرب هي من القوافي, ولا رويه من أي الحروف, ولا حركة رويه من أي الحركات, فاستخرج عجزه ارتجالا في غاية العسر, ونهاية الصعوبة, لولا ما أمد الله به هؤلاء الأقوام من المواد التي فضلوا بها غيرهم. انتهى كلام ابن أبي الإصبع. وإنما قال: إن بيت عمر بيت مفرد لم تعلم قافيته ولا رويه, لأنه هو مطلع القصيدة ولم يتقدمه شيء يعلم به ذلك.

ومثل ذلك ما روي عن أبي عبيدة قال: أقبل راكب من اليمامة فمر بالفرزدق, فقال له: هل رأيت ابن المراغة؟ قال: نعم, قال: فأي شيء أحدث بعدي؟ فأنشده:

هاج الهوى بفؤادك المهتاج ... فقال الفرزدق

فانظر بتوضح باكر الأحداج ... فأنشد الرجل

هذا هوى شغف الفؤاد مبرح ... فقال الفرزدق

ونوى تقاذف غير ذات خداج ... فأنشد الرجل

إن الغراب بما كرهت لمولع ... فقال الفرزدق

بنوى الأحبة دائم التشحاج ... فقال الرجل: هكذا والله قال أفسمعتها من غيري؟ قال: لا ولكن هكذا ينبغي أن يقال.

وحكي أن جريرا لما أنشد الراعي النميري قصيدته التي هجاه بها كان الفرزدق حاضرا, فلما وصل إلى قوله: (ترى برصا بمجمع إسكتيها) غطى الفرزدق عنفقته فقال جرير: (كعنفقة الفرزدق حين شابا) فقال له الفرزدق: أخزاك الله, والله لقد علمت أنك لا تقول غيرها.

ومدح أبو الرخاء الأهوازي الصاحب بن عباد لما ورد الأهواز بقصيدة منها:

إلى ابن عباد أبي القاسم ال ... صاحب إسماعيل كفاي الكفاة

فاستحسن جمعه بين اسمه وكنيته لقبه واسم أبيه في بيت واحد. ثم ذكر وصوله إلى بغداد, وملكه إياها إلى أن قال: (ويشرب الخيل هنيئا بها) فقال له: أمسك, ثم قال: تريد أن تقول:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015