هذا أيضاً من نوع العنوان, فإنه يشير إلى قصة جبلة بن الأيهم, وهو آخر ملوك غسان, وهو بن الأيهم بن الحارث الغساني, وهو أول من ملك الشام من آل غسان, وكان طوالا, يقال: أن طوله كان اثني عشر ذراعا. وكان من خبره أنه قدم إلى عمر ليسلم, فخرج في خمسمائة فارس من عكل وجفنة. فلما قربوا من المدينة ألبسهم ثياب الوشي المنسوجة بالذهب, والخز الأصفر, وحملهم على الخيل, وقلدها قلائد الفضة والذهب, ولبس تاجه, وفيه قرطا مارية, فلم يبق في المدينة إلا من خرج إليه. وفرح المسلمون بقدومه وإسلامه. ثم حضر الموسم مع عمر, فبينما هو يطوف بالبيت إذ وطئ أزاره رجل من فزارة فحله, فالتفت إليه مغضبا فلطمه فهشم أنفه, فاستعدى عليه الفزاري عمر, فقال له: ما دعاك إلى لطم أخيك؟ قال: إنه وطئ أزاري, ولولا حرمة البيت لأزلت الذي فيه عيناه. فقال له عمر: أما أنت فقد أقررت, فأما أن ترضيه, وأما أن أقيده منك. قال: أتقيده مني وهو سوقه؟ قال: قد شملك وإياه الإسلام, فما تفضله إلا بالعافية, قال: قد رجون أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية, قال: وهو ذاك, قال: إذن أتنصر, قال: إذا تنصرت ضربت عنقك. واجتمع وفد فزاره, ووفد جبلة حتى كادت تكون فتنة. فقال جبلة: أنظرني إلى غد أنظر في أمري, قال: ذلك إليك. فلما جنح الليل خرج في قومه من عكل وجفنة, فتنصر وقدم على هرقل, فأعظم هرقل قدومه وسر به, وأقطعه الأموال والرباع.

فلما بعث عمر رسوله إلى هرقل يدعوه للإسلام, وأجابه إلى المصالحة, قال للرسول: ألقيت ابن عمك الذي أتانا في ديننا؟ قال: لا, قال: ألقه ثم ائتني وخذ الجواب مني. قال: فذهبت إليه فوجدت على بابه هيبة وجمعا ما رأيت مثله على باب هرقل, فلما أذن لي دخلت عليه فإذا هو على سرير من ذهب, أربع قوائمه أسد من ذهب, وعليه ثياب صفر, وعلى رأسه تاج فيه قرطا مارية. فلما رآني رحب بي وأكرمني وقال: أجلس على ذلك الكرسي, فاستعفي لمكان الذهب, فضحك وقال: إذا طهر قلبك فلا تبالي ما لبست, وعلى ما جلست, فقلت له: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن ذلك. ثم أشار إلى خادم, فما كان أسرع من أن جاء ومعه وصائف يحملن صناديق الأطعمة, فوضعت, ثم أتي بمائدة من ذهب عليها صحائف الفضة, وأتيت بطبق من خيزران, وبآنية من الخلنج والزجاج. فلما رفعنا أيدينا, أتي بطست وكوز من ذهب فشرب به خمسة. ثم وضعت بين يديه كراسي عشرة فجلست عليها جوار مثل الدمى, وجاءت جارية في يمينها جام ذهبي, وفي شمالها جام فضي, وعلى رأسها حمام أبيض مزخرف, فوضعت الجامين, فإذا في الذهبي ماء ورد, وفي الفضي سحيق المسك. ثم نفرت الحمام, فوقع في ذلك مرة, وفي هذا أخرى. ثم طار بما لزق بجناحيه من ماء الورد والمسك حتى وقع على تاجه فانتفض.

ثم أقبل جبلة على الجواري فقال: أطربنني, فتغنين بقولهم:

لله در عصابة نادمتهم ... يوما بجلق في الزمان الأول

يسقون من ورد البريص عليهم ... راح تصفق بالرحيق السلسل

أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الجواد المفضل

يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل

فضحك ثم قال: أتدري من قائل هذا؟ قلت: لا, قال: حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم, وأول الأبيات المذكورة (أسألت رب الدار أم لم تسأل) : ثم ألتفت إلى الجواري وقال: ابكينني, فتغنين بقولهم:

تنصرت الأشراف من أجل لطمة ... وما كان فيها لو تجافيت من ضرر

تداخلني فيها لجاج ونخوة ... فكنت كمن باع السلامة بالغرر

فيا ليت أمي لم تلدني وليتني ... رجعت إلى القول الذي قاله عمر

ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة ... وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر

ويا ليت لي في الشام أدنى معيشة ... أجالس قومي ذاهب السمع والبصر

فبكى حتى بل لحيته. ثم سألني عن حسان, قلت: عمي وقلت ذات يده, فدعى بخمسمائة دينار هرقلية وخمسة أثواب, ونزع جبة كانت عليه, وقال: أدفعها إليه.

فلما وفدت على عمر وقصصت عليه القصص, وأنه بعث معي إلى حسان كذا وكذا قال: أدع حسانا ولا تعلمه, فلما دخل حسان قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين, إني لأجد روائح آل جفنة, قال له: نعم قد آتاك على رغم أنفه معونة.

فأخذها وخرج وهو يقول:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015