ففي كل من عجزي البيتين تمثيل حسن لفظا ومعنى، فإنه مثل إخراجهم له بكره منه عن سجيته التي هي الحلم والصفح، إلى أذاهم والكناية فيهم بإخراج النار من السلم الأخضر اليانع بالإيقاد، ولو ترك وحاله لم تخرج منه نار، ثم بين ذلك بقوله: أوطأتموه على جمر العقوق، يعين أنكم اضطررتموه بشقكم العصا بعصيانه، وترك بره، إلى أذاكم. ولو لم تفعلوا ذلك لم يقع منه شيء من ذلك، كالليث لو لم يحرج عليه ما خرج من غابه. فكل عجز من هذين البيتين تمثيل أخرج مخرج المثار السائر.

وقول الطغرائي:

مجدي أخيرا ومجدي أولا شرع ... والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل

فمثل استواء مجده في الأول والآخر باستواء حالتي الشمس في أول النهار وفي آخره، فشبه نفسه بالشمس وأخرج ذلك مخرج المثل السائر.

وهو مأخوذ من قول أبي العلاء المعري:

وافقتهم في اختلاف من زمانكم ... والبدر في الوهن مثل البدر في السحر

غير أن ذاك شبه نفسه بالشمس، وهذا شبه ممدوحه وآباءه بالبدر، وهذا أيضاً من التمثيل المذكور.

وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:

يا غائبين لقد أضنى الهوى جسدي ... والغصن يذوي لفقد الوابل الرذم

مثل حاله لما أضنى الهوى جسده لغيبة أحبابه بالغصن الذي ذوى لفقد المطر، وأخرج كلامه مخرج المثل السائر كما تقرر.

وبيت بديعية الموصلي قوله:

من التعاظم تمثيل الزمان به ... وقد يكون اتضاع القدر بالشمم

قال ابن حجة: هذا البيت غير صالح للتجريد، وقد كل الفكر وعجزت أن أتوصل فيه إلى حد يتوصل به إلى فهم معناه، أو إلى صورة التمثيل في تركيبه، فلم أجد بدا من مطالعة الشرح، فلما نظرت في شرحه وجدته قد قال فيه: أن العذول يتعاظم في كلامه وأفعاله، فلذلك مثل الزمان به من استهتار السامع به والتهكم عليه وعدم الإصغاء إليه، وفي ذلك تهجين له. ثم قال في آخر الشرح: وقد أرسلت النصف الثاني من البيت مثلا.

فما زادت مرآه ذوقي بذلك إلا صدأ. انتهى كلام ابن حجة.

وأنا أقول: أما قوله: أنه عجز عن فهم معناه، فما أجدر ابن حجة بأن لا يفهم، ومعناه واضح، وذلك أنه يقول: أنه لما تعاظم هذا العذول في كلامه وأفعاله جعله الزمان مثله - بالضم - أي نكل به، يقال: مثل فلان بفلان تمثيلا، أي نكل به، وقد بين وجه تنكيل الزمان به فيما نقله ابن حجة من شرحه حيث قال: فلذلك مثل الزمان به من استهتار السامع به والتهكم عليه، فقوله: من استهتار السامع إلى آخره: بيان لتمثيل الزمان به. ثم قال: وقد يكون اتضاع القدر بالشمم، والشمم الارتفاع، وأصله في الأنف. يعني أن بعض الارتفاع قد يكون سببا للاتضاع كما وقع لهذا العاذل.

نعم، الذي يرد على الموصلي: أن بيته هذا خال عن شاهد التمثل، لأن التمثيل كما تقدم تشبيه حال بحال، وليس في هذا البيت شيء من ذلك.

وبيت بديعية ابن حجة قوله:

وقلت ردفك موج كي أمثله ... بالموج قال قد استسمنت ذا ورم

ابن حجة استسمن من هذا البيت ذا ورم فكأنه إنما خاطب نفسه، وذلك أن هذا البيت أيضاً خال من شاهد التمثل، لما عرفت من أن التمثيل تشبيه حال بحال (كما تقدم من الأمثلة) فقوله: ردفك موج، ليس فيه إلا تشبيه الردف بالموج - بحذف الأداة - لا تشبيه حال بحال، وقوله في آخر البيت: قد استسمنت ذا ورم، ليس من إخراج التمثيل مخرج المثل كما زعم، لأنه قد قرر في شرحه: أن التمثيل إنما هو في قوله (ردفك موج) وهذا كلام آخر خارج عن التمثيل. ومعنى إخراج التمثيل مخرج المثل السائر: أن يأتي المتكلم بالتمثيل في كلام يصلح أن يكون مثلا، كما تقدم من قول أبي تمام والطغرائي والمعري، فلا يخفى عليك غفلة ابن حجة وبعده عن تحقيق المقاصد وفهم المعاني. ثم أن عليه هنا نقدا آخر وهو أنه قد قرر في أول شرح بديعيته: أن الغزل الذي صدر به المديح النبوي، يتعين على الناظم أن يحتشم فيه ويتأدب، ويطرح ذكر التغزل في ثقل الردف ورقة الخصر وبياض الساق وحمرة الخد ونحو ذلك، فما هذا التغزل البارد الآن في ثقل الردف؟ وقد تقدم أيضاً في تغزله في حمرة الخد في بيت الاكتفاء، وهل هذا منه إلا غفلة أو تهافت؟.

وبيت بديعية الطبري قوله:

كانوا كليل شتاء كم قررت بهم ... عينا وتمثيلهم لي مونس النسم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015