وجاء جماعة من المتأخرين فجعلوا الإبهام اسما لإيراد الكلام محتملا لمعنيين متضادين، لأنهم رأوا أن هذا الاسم أليق بهذا المسمى من التوجيه وقد مر الكلام على الإبهام بهذا المعنى مستوفى في محله مع ذكر شواهده. وجعلوا التوجيه عبارة عن أن يؤلف المتكلم مفردات بعض كلامه أو جمله، ويوجهها إلى أسماء متلائمة من أسماء الأعلام، أو قواعد العلوم، أو غيرها توجيها مطابقا لمعنى اللفظ الثاني من غير اشتراك حقيقي بخلاف التورية. وبهذا يظهر الفرق بينه وبين التورية خلافا لمن أدخله فيها. وسيأتي مزيد بيان للفرق بينهما في أواخر هذا الباب إن شاء الله تعالى.

وهذا الحد للتوجيه هو مذهب الشيخ صفي الدين الحلي، وعليه نشج بيت بديعيته، وهي نتيجة سبعين كتابا في هذا الفن، وعلى منواله نسج ابن حجة بديعيته، وكذا الشيخ عبد القادر الطبري، والعلوي، وهو الطريق الذي سلكته أنا أيضاً في بيت بديعيتي كما سيأتي فمن التوجيه بأسماء الأعلام قول الشيخ علاء الدين الوداعي وأجاد ما شاء:

من أم بابك لم تبرح جوارحه ... تروي أحاديث ما أوليت من منن

فالعين عن قرة والكف عن صلة ... والقلب عن جابر والأذن عن حسن

الشيخ علاء الدين أحرز قصبات السبق في مضمار هذا النوع بهذين البيتين، وأبدى بهذا التوجيه وجوها أسفرت عن محاسن هي شنوف للسمع وقرة للعين، وبمثل طيب هذه الآثار فليتمسك الأديب، وبنحو هذه الرواية فليتوثق الأريب، ولا غرو أن صدرناهما على سائر الشواهد في هذا الباب، فاستحقاقهما للتصدير معترف به عند أولي الألباب.

وما أحسن مناسبته بين القرة والعين، والصلة والكف، والجبر والقلب والسمع والحسن.

أما قرة فقال ابن حجة: هو قرة بن خالد السدوسي. وليس بمتعين لأنه اسم لجماعة من الرواة منهم قرة بن أياس أبو معاوية المزني، له صحبة عنه ابنه، ومنهم قرة بن موسى الهجيمي، وعنه قرة بن خالد، ومنهم قرة بن بشر الكلبي، عن أبي برده، وعنه أخوه إسماعيل بن أبي خالد.

وأما صلة، فقال بن حجة: هو صلة بن أشيم العدوي، كان من كبار التابعين، والأولى أن يكون صلة بن زفر العبسي لأنه أشهر من ذاك وقد روى عن علي عليه السلام وعبد الله وعمار.

وأما جابر فهو اسم لجماعة كثيرين من الرواة أعظمهم جابر بن عبد الله صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

وأما الحسن فقال ابن حجة: هو الحسن البصري، وليس بمتعين أيضاً لكثرة الرواة المسمين بهذا الاسم، ومنهم صحابيون، فتخصيصه بالحسن البصري لا وجه له.

والوادعي المذكور صاحب البيتين هو الشيخ علي بن المظفر بن إبراهيم الكندي الإسكندراني.

وعلى ذكره، فقد اتفقت لي نكتة لطيفة لا بأس بذكرها هنا استطرادا وهي: أني كنت في بعض الأيام في مجلس مع بعض الأصحاب، فتجاذبنا أهداب الصحبة والحديث من قديم وحديث، فكان في جملة ما حدثني به أن قال: أني دخلت شيراز في أيام الشبيبة مع رفقة لي فرأينا في بعض مساجدها أيام مولد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم شيخا كبيرا من أهل العجم أناف سنه على التسعين، وجف من ماء عمره العذب المعين، وهو يقرأ في المولد، فبينا نحن جلوس إذ وضع عمامته عن رأسه فبدت له ذؤابة بيضاء تنوس عذبتها. قال: فاستغربنا في الضحك من ذلك، إذ لم نعهد الذؤابة في بلادنا إلا للصبيان، فضحكت أنا من هذه الحكاية، واستطرفت هذه الرواية.

فلم يمض على ذلك يوم أو يومان حتى وقفت في الدرر الكامنة - تاريخ أهل المائة الثامنة - للحافظ بن حجر العسقلاني، على ترجمة الشيخ علاء الدين الوداعي المذكور، وقال فيها: وكانت له ذؤابة بيضاء إلى أن مات، وفيها يقول:

يا عائبا مني بقاء ذؤابتي ... مهلا فقد أفرطت في تعييبها

قد واصلتني في زمان شبيبتي ... فعلام أقطعها أوان مشيبها

فتعجبت في نفسي من هذا الاتفاق، وقلت: إن هذين البيتين قاما لذلك الرجل العجمي مقام العذر، وكان له أسوة في إبقاء ذؤابته بالشيخ علاء الدين رحمه الله تعالى.

قال ابن حجة: كانت وفاة الشيخ علاء الدين المذكور في رجب سنة ست عشرة وسبعمائة.

قال: وكان شديدا في مذهب التشيع رحمه الله تعالى. انتهى.

رجع. ومن التوجيه بأسماء الأعلام أيضاً قول ابن النقيب يهجو:

أرح ناظري من عابس الوجه يابس ... له خلق صعب ووجه مقطب

طور بواسطة نورين ميديا © 2015