وأنا أقول: أما لفظ البيت فليس فيه استثناء و (إلا) المذكورة في صدره وعجزه ليست هي الاستثنائية، وإنما هي بمعنى (إن لم) فهي كلمتان (إن) الشرطية و (لا) النافية. مثلها في قوله تعالى: (إلا تنصروه فقد نصره الله) . لأن تقدير البيت هكذا: إليك تحث الركائب وإلا، أي وإن لم يحدث عنك فالمحدث كاذب. وأما معناه الذي ذكره، فالاستثناء فيه ظاهر، فعلى هذا فالأليق أن يسمى هذا استثناء معنويا لئلا يتوهم من لا له دربة في العربية، أن (إلا) فيه هي الاستثنائية فيخبط خبط عشواء.

وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي بناه على أسلوب بيت النميري المقدم ذكره فقال:

فكلما سر قلبي واستراح به ... إلا الدموع عصاني بعد بعدهم

فأخر خبر (كلما) وهو (عصاني) عن الاستثناء، كما أخر النميري مفعول (خلتك) عنه. وقد قال هو في شرح بديعيته: أن في تلك زيادة حلاوة.

وجعل ابن حجة ذلك من العقادة. فما أحقه أن ينشد:

إذا محاسني اللائي أدل بها ... كانت ذنوبي فقل لي كيف اعتذر

ومعنى البيت أن كل شيء كان يسره ويستريح به ويطيعه قبل الفراق عصاه بعده إلا الدموع فإنها أطاعته. وفي هذا المعنى من الرقة الزائدة على معنى الاستثناء ما لا يخفى على أهل الذوق.

ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع في بديعيته.

وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:

الناس كل ولا استثناء لي عذروا ... إلا العذول عصاني في ولائهم

مراده في زيادة معناه على الاستثناء: أن عذوله خرق الإجماع بمعصيته.

وبيت بديعية ابن حجة قوله:

عفت القدود ولم أستثن بعدهم ... إلا معاطف أغصان بذي سلم

ابن حجة تبجح بهذا البيت، وحق له ذلك، فإنه أجاد فيه ما شاء، فإن زيادة معناه على الاستثناء، وحسن انسجامه، وسهولة ألفاظه، ومراعاة نظيره، لا ينكرها إلا متعنت خارج عن أوصاف الإنصاف. وما أحسن ترشيحه تورية الاستثناء بذكر القد=ود والمعاطف والتكميل بذي سلم لكون القصيدة نبوية، في غاية الكمال.

غير أن لقائل أن يقول: أن مهيار الديلمي كان أغزل منه حيث يقول من قصيدة فريدة:

بانت وبقتني وليس خلفا ... على ظباء رامة وبانها

فما خدعت عن لحاظ عينها ... بما رنا إلي من غزلانها

ولا عتبت عن تثني قدها ... بأن أحالتني على أغصانها

فابن حجة صبا إلى معاطف الأغصان بعد معاطف أحبابه، ومهيار لم يرض بلحاظ الغزلان، وتثني أغصان البان خلفا عن لحظ حبيبته، وتثني قدها، فبين صبابتي الرجلين بعد المشرقين.

وبيت بديعية الطبري قوله:

رفضت جانبهم مما جنوه فلم ... استثن إلا ذوي لطف بصبهم

أنى الوادي فطم على القري. ولله ابن النبيه حيث يقول:

من لم يذق ظلم الحبيب كظلمه ... حلوا فقد جهل المحبة وادعى

وانظر المعنى الزائد على معنى الاستثناء في هذا البيت ما هو؟ فإن ركة لفظه ومعناه لم تبق للسامع جلدا يتأمل به ذلك.

وبيت بديعيتي هو قولي:

سلوت من بعدهم هيف القدود فلم ... استثن إلا غصونا شبهت بهم

زيادة معنى هذا البيت على معنى الاستثناء، ومراعاة نظيره، وترشيح تورية الاستثناء فيه بذكر الهيف، هيف القدود والغصون، مثلها في بيت ابن حجة على حد سواء، غير أن في التكميل بقولي: شبهت بهم، أمرين: أحدهما - التقصي عن الانتقاد الذي أوردناه عليه من أبيات مهيار الديلمي، فإن الاستثناء إنما وقع للغصون التي شبهت بهم، فالاستثناء لها إنما هو من هذه الحيثية لا لمعاطفها وتثنيها، فلولا تشبيهها بهم لم يستثنها ولا أعارها طرفه.

وعلى ذلك فما أرق قول مهيار الديلمي أيضاً:

أراك بوجه الشمس والبعد بيننا ... فاقنع تشبيها بها وتمثلا

واذكر عذبا من رضا بك مسكرا ... فما أشرب الصهباء إلا تعللا

وقوله أيضاً:

إذا استوحشت عيني أنست بأن أرى ... نظائر تصبيني إليها وأشباها

فاعتنق الغصن القويم لقدها ... وأرشف ثغر الكأس أحسبه فاها

والأمر الثاني - إن فيه من المبالغة ما جعل الأصل فرعا، والفرع أصلا. وهذا فصل من فصول العربية طريف، عقد له ابن جني في كتاب الخصائص بابا وسماه: غلبة الفروع على الأصول، قال: والغرض فيه المبالغة.

فمما جاء في ذلك للعرب قول ذي الرمة:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015