هذا النوع قال الشيخ صفي الدين الحلي: هو من مستخرجات ابن أبي الإصبع، وهو عبارة عن أن يقصد المتكلم هجاء إنسان، فيأتي بألفاظ موجهة ظاهرها المدح، وباطنها القدح.

كقول الحماسي:

يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا

كأن ربك لم يخلق لخشيته ... سواهم من جميع الخلق إنسانا

فظاهر هذا الكلام المدح بالحلم، والعفة، والخشية، والتقوى، وباطنه المقصود: أنهم في غاية الذل وعدم المنفعة، لقوله بعد ذلك:

فليت لي بهم قوما إذا ركبوا ... شنوا الإغارة فرسانا وركبانا

ومثله قول النجاشي يهجو بني عجلان:

قبيلة لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل

ولا يردون الماء إلا عشية ... إذا صدر الوراد عن كل منهل

تعاف الذئاب الضاريات لحومهم ... وتأكل من كعب بن عوف ونهشل

وهذا الشعر هو الذي أشار إليه ابن بسام فيما نقلناه عنه من الذخيرة في نوع النزاهة، وقال: منعتني شهرته عن ذكره. وأن بني عجلان استعدوا عمر بن الخطاب على النجاشي، وأنشدوه قوله هذا فيهم فدرء الحد بالشبهات.

ويقال أن عمر بن الخطاب لما سمع البيت الأول قال: وددت أن آل الخطاب هكذا، فلما سمع البيت الثاني قال: ما أحب كل هذه المذلة.

وفي الأغاني: أن تميم بن مقبل العامري كان يهاجي النجاشي الشاعر، فهجاه النجاشي فاستعدى عليه عمر، وقال: إنه هجاني، فقال عمر: يا نجاشي ما قلت؟ قال: قلت: ما لا أرى علي فيه بأسا.

وأنشده:

إذا الله جازى أهل لؤم بذمة ... فجازى بني العجلان رهط بن مقبل

فقال عمر: إن كان مظلوما استجيب له، وإن لم يكن مظلوما لم يستجب له.

قال: وقد قال أيضاً:

قبيلة لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل

فقال عمر: ليتني من هؤلاء، وفي رواية: ليت آل الخطاب هكذا.

قال: فقد قال أيضاً:

ولا يردون الماء إلا عشية ... إذا صدر الوراد عن كل منهل

فقال عمر: ما على هؤلاء متى شاؤا أوردوا.

قال: فقد قال أيضاً:

وما سمي العجلان إلا لقوله ... خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل

فقال عمر: ما لقوم أنفعهم لأهله. فقال تميم لعمر: سله عن قوله:

أولئك أولاد الهجين وأسرة ... اللئيم ورهط العاجز المتذلل

تعاف السباع الضاريات لحومهم ... وتأكل من أبناء كعب ونهشل

فقال عمر: أما هذا فلا أعذرك عليه، فسبه وضربه.

ومن لطيف أمثلة هذا النوع قول محمد بن حمزة السلمي في الحسن بن زيد بن الحسن بن علي عليهم السلام:

له حق وليس عليه حق ... ومهما قال فالحسن الجميل

وقد كان الرسول يرى حقوقا ... عليه لغيره وهو الرسول

وقول ابن سناء الملك في قواد:

لي صاحب أفديه من صاحب ... لولا التأني حسن الاحتيال

لو شاء من رقة ألفاظه ... ألف ما بين الهدى والضلال

يكفيك منه أنه ربما ... قاد إلى المهجور طيف الخيال

وأحسن من هذا قول محي الدين بن قرناص:

لي صاحب جلت جميع صفاته ... قد عمني ببدائع الإحسان

لو لم يكن مثل النسيم لطافة ... ما بات يعطف لي غصون البان

وقال آخر في المعنى:

يسهل كل [ممتنع] شديد ... ويأتي بالمراد على اقتصاد

فلو كلفته تحصيل طيف ... الخيال ضحى لزار بلا رقاد

والأصل في ذلك قول عمر بن أبي ربيعة:

فأتتها طبة عالمه ... تمزج الجد مرارا باللعب

تغلظ القول إذا لانت لها ... وتراخى عند سورات الغضب

قيل أن ابن عتيق لما سمع ذلك قال لعمر: ما أحوج المسلمين إلى خليفة (يدبر أمرهم) مثل قوادتك هذه.

وقال زكي الدين بن أبي الإصبع فيمن يدعي الفقه والكرم:

إن فلانا أكرم الناس لا ... يمنع ذا الحاجة من فلسه

وهو فقيه ذو اجتهاد وقد ... نص على التقليد في درسه

فيحسن البحث على وجهه ... ويوجب الدخل على نفسه

ومن طريفه قول أبي محمد الحسن بن أحمد البغدادي الحريمي الشاعر في الشريف أبي السعادات هبة الله بن الشجري:

يا سيدي والذي يعيذك من ... نظم قريض يصدا به الفكر

مالك من جدك النبي سوى ... أنك ما ينبغي لك الشعر

طور بواسطة نورين ميديا © 2015