قال في القاموس: التهكم: التهدم في البئر ونحوها، والاستهزاء، والطعن المتدارك، والتبختر، والغضب الشديد؛ والتندم على الأمر الفائت والمطر الكثير الذي لا يطاق، والتغني. انتهى.

والمقصود هنا: المعنى الثاني وهو الاستهزاء، وفي كونه منقولا من التهدم- ما قال بعضهم- أو الغضب- كما قال آخرون- نظر، لأنه قد ورد التهكم بمعنى الاستهزاء في اللغة، فأي داع إلى كونه منقولا من معنى أخر؟ نعم في الاصطلاح أخص منه في اللغة، لأنه في اللغة بمعنى الاستهزاء مطلقا، وفي الاصطلاح هو الخطاب بلفظ الإجلال في موضع التحقير، والبشارة في موضع التحذير؛ والوعد في مكان الوعيد، والعذر في موضع اللوم؛ والمدح في معرض السخرية، ونحو ذلك.

فمن الخطاب بلفظ الإجلال في موضع التحقير، قوله تعالى: (ذق إنك أنت العزيز الكريم) ومن البشارة في موضع التحذير، قوله تعالى: (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما) وقوله تعالى: (فبشرهم بعذاب أليم) ومن الوعد في موضع الوعيد، قوله تعالى: (وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل) وهذا ضد الإغاثة.

ومن العذر في موضع اللوم، قول ابن أبي الحديد:

عذرتكما إن الحمام لمبغض ... وان حياة النفس للنفس محبوب.

ومن أمثلة هذا النوع في الشعر، قول ابن الرومي:

فيا له من عمل صالح ... يرفعه الله إلى أسفل.

وقول أبي بكر أحمد بن محمد الأبيض الإشبيلي يتهكم برجل زعم أنه ينال الخلافة:

أمير المؤمنين نداء شيخ ... أفادك من نصائحه اللطيفه.

تحفظ أن يكون الجذع يوما ... سريرا من أسرتك المنيفه.

وقول جاسوس الملك في الوزير أبي القاسم الجرجاني، وكان أقطع اليدين من المرافق:

وأقمت نفسك في الثقاة ... وهبك فيما قلت صادق.

فمن الأمانة والتقى ... قطعت يداك من المرافق.

وقول بعضهم:

بجيش يناطح زهر النجو ... م إذا ما طلعت به أسفلا.

وقول المتنبي في كافور: من علم الأسود المخصى مكرمة=أقومه البيض أم آباؤه الصيد.

وقول ابن الذروي في ابن أبي حصينة وكان أحدب، وهو من شاهد المدح في معرض السخرية:

يا أخي كيف غيرتنا الليالي ... وأحالت ما بيننا بالمحال.

حاش الله أن أصافي خليلا ... فيراني في وده ذا اختلال.

زعموا أنني نظمت هجاء ... معربا فيك عن شيع القتال.

كذبوا إنما وصفت الذي حز ... ت من فضلها والبها والكمال.

لا تظنن حدبة الظهر عيبا ... وهي في الحسن من صفات الهلال.

وكذاك القسي محدودبات ... وهي أنكى من الظبى والعوالي.

وإذا ما علا السنام ففيه ... لقروم الجمال أي الجمال.

وأرى الانحناء في مخلب البازي ولم يعد مخلب الرئبال.

كون الله حدبة إن شئ ... ت من الفضل أو من الأفضال.

فأتت ربوة على طود علم ... وأتت موجة ببحر رمال.

ما رأتها النساء إلا تمنت ... أنها حلية لكل الرجال.

وأبو الغصن أنت لا شك فيه ... وهو رب القوام ذو الاعتدال.

عد إلى ودنا القديم ولا ... تضع لقيل من الوشاة وقال.

وتذكر لياليا حين ولت ... أودعت حسنها عقود اللآلي.

أترى بالرجال يجمع شملي ... أم رجائي مخيب وابتهالي.

وإذا لم يكن من الهجر بد ... فعسى أن تزورنا في الخيال.

ولأبي الفتح ابن دانيال قصيدة في رجل أحدب على هذا النمط، وأنا أفضلها على هذه القصيدة وأرى الاستشهاد بها أقعد من تلك في هذا النوع وهي:

قسما بحسن قوامك الفتان ... يا أوحد الأمراء في الحدبان.

أنت الحسام زها برونق حدبة ... فزها على الخطية المران.

يا مخجلا شكل الهلال يقده ... حاشاك أن تعزى إلى نقصان.

وممايلاً قد القضيب إذا مشى ... من حدبتيه يميس كالريان.

ما عاب قامتك الحسود جهالة ... إلا أجبت مقاله ببيان.

هل يحسن الجو كان إلا أن يرى ... مع أكره في حلبة الميدان.

أو هل يزين المتن إلا ردفه ... حسنا فكيف بمن له ردفان.

والعود أحدب وهو ألهى مطرب ... والقد سمعت بنغمة العيدان.

وكذا سفين البحر لولا حدبة ... في ظهره لم يقو للطوفان.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015