خامسًا: لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته الكرام أنهم كانوا يخصصون ختمة للتدبر وختمة للقراءة السريعة، بل هي ختمة واحدة تبحث عن الفهم والتأثر .. ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتنا، وفعل الصحابة هو النموذج الصحيح الذي أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قيل للسيدة عائشة رضي الله عنها: إن أناسًا يقرأ أحدهم القرآن في ليلة مرتين أو ثلاثًا، فقالت: قرؤوا ولم يقرؤوا، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم ليلة التمام فيقرأ سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة النساء لا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله تعالى ورغب، ولا يمر بآية فيها تخويف إلا دعا واستعاذ. (?)
وسأل رجل زيد بن ثابت: كيف ترى قراءة القرآن في سبع؟ فقال زيد: حسن، ولئن اقرأه في نصف شهر أو عشرين أحب إليَّ لكي أتدبره وأقف عليه (?).
وعن ابن جمرة قال: قلت لابن عباس: إني سريع القراءة وإني اقرأ القرآن في ثلاث، فقال: لأن أقرأ البقرة في ليلة فأدَّبرها وأرتلها أحب إليَّ من أن أقرأ كما تقول (?).
السؤال الثاني
- من الملاحظ أن الكثير من المسلمين عندما يدخل عليه شهر رمضان تراه وقد شمر عن ساعديه محاولاً تحصيل أكبر قدر من الحسنات من خلال أدائه لعبادات كثيرة، ويأتي على رأسها قراءة القرآن، فتجده وقد حدد لنفسه هدفًا بأن يختم القرآن عدة مرات خلال هذا الشهر دون الاهتمام بفهم ما يقرأ فضلاً عن التأثر به ... فهل الأفضل له أن يفعل ذلك، أم أن القراءة الهادئة المتأنية التي تبحث عن الفهم والتدبر والتأثر دون النظر لعدد الختمات هي الأفضل؟!
الجواب:
يجيب عن هذا التساؤل الإمام ابن القيم في كتابه زاد المعاد فيقول رحمه الله:
وقد اختلف الناس في الأفضل: الترتيل وقلة القراءة، أو السرعة مع كثرة القراءة، أيهما أفضل ... على قولين:
فذهب ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وغيرهما إلى أن الترتيل والتدبر مع قلة القراءة أفضل من سرعة القراءة مع كثرتها. واحتج أرباب هذا القول بأن المقصود من القراءة فهمه وتدبره والفقه فيه والعمل به، وتلاوته وحفظه وسيلة إلى معانيه، كما قال بعض السلف: نزل القرآن ليعمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً، ولهذا كان أهل القرآن هم العالمون به، والعاملون بما فيه، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب، وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل بما فيه فليس من أهله وإن أقام حروفه إقامة السهم.
وقالوا: ولأن الإيمان أفضل الأعمال، وفهم القرآن وتدبره هو الذي يُثمر الإيمان، وأمامجرد التلاوة من غير فهم ولا تدبر، فيفعلها البرُّ والفاجر، والمؤمن والمنافق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مر» [رواه البخاري].
والناس في هذا أربع طبقات, الأولى: أهل القرآن والإيمان، وهم أفضل الناس. والثانية: من عَدِم القرآن والإيمان. والثالثة: من أُوتي قرآنا، ولم يُؤت إيمانًا. والرابعة: من أُوتي إيمانًا ولم يؤت قرآنًا.
قالوا: فكما أن من أُوتي إيمانًا بلا قرآن أفضل ممن أُوتي قرآنًا بلا إيمان، فكذلك من أُوتي تدبرا، وفهمًا في التلاوة أفضل ممن أُوتي كثرة قراءة وسرعتها بلا تدبر. وهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها، وقام بآية حتى الصباح.