الفكر والعاطفة في آن واحد
من عجائب القرآن التي ينفرد بها عن غيره أنه يخاطب الفكر والعاطفة معًا وفي آن واحد، يخاطب العقل فيقنعه بما يريد إقناعه به، وفي نفس الوقت يتسرب هذا الخطاب إلى المشاعر فيستثيرها ويدفعها للتجاوب معه فتتحول القناعة العقلية إلى إيمان قلبي، وهذا لا يمكن حدوثه مع أي خطاب آخر.
فأهل الرأي إذا ما أرادوا أن يقنعوا الناس بفكرة ما استخدموا أساليب الإقناع المختلفة، وبالفعل يقتنع العقل، ولكن تظل هذه الفكرة حبيسة فيه، ولا تنتقل إلى القلب لتصبح إيمانًا يدفع للعمل بمقتضاها، والسبب في ذلك أنهم لم يخترقوا القلب بفكرتهم، ولم يؤثروا على المشاعر وهذا أمر بعيد المنال عنهم، فإمكاناتهم وإمكانات البشر جميعًا لا تسمح بذلك.
وفي هذا المعنى يقول د. محمد عبد الله دراز - رحمه الله-:
وفي النفس الإنسانية قوتان: قوة تفكير وقوة وجدان، وحاجة كل واحدة منهما غير حاجة أختها، فأما إحداهما فتنقب عن الحق لمعرفته، وعن الخير للعمل به، وأما الأخرى فتسجل إحساسها بما في الأشياء من لذة وألم، والبيان التام هو الذي يوفي لك هاتين الحاجتين ويطير إلى نفسك بهذين الجناحين، فيؤتيها حظها من الفائدة العقلية والمتعة الوجدانية معًا.
فهل رأيت هذا التمام في كلام الناس؟
لقد عرفنا كلام العلماء والحكماء، وعرفنا كلام الأدباء والشعراء، فما وجدنا من هؤلاء ولا هؤلاء إلا غُلُوًا في جانب، وقصورًا في جانب ... فالذي يفهمك تتناقص قوة وجدانه، والذي يقع تحت تأثير لذة أو ألم يضعف تفكيره. وهكذا لا تقصد النفس الإنسانية إلى هاتين الغايتين قصدًا واحدًا، وإلا لكانت مقبلة مدبرة معًا.
هذا مقياس تستطيع أن تتبين به في كل لسان وقلم أي القوتين كان خاضعًا لها حين قال أو كتب: فإذا رأيته يتجه إلى تقرير حقيقة نظرية أو وصف طريقة عملية قلت: هذه ثمرة الفكرة.
وإذا رأيته يعمد إلى تحريض النفس أو تنفيرها، وقبضها أو بسطها، واستثارة كوامن لذاتها أو ألمها، قلت: هذه ثمرة العاطفة، وإذا رأيته قد انتقل من أحد هذين الضربين إلى الآخر ... عرفت بذلك تعاقب التفكير والشعور على نفسه .. وأما إن أسلوبًا واحدًا يتجه اتجاهًا واحدًا ويجمع في يديك هذين الطرفين معًا، كما يحمل الغصن الواحد من الشجرة أوراقًا وأزهارًا وأثمارًا معًا ... فذلك لا تظفر به في كلام بشر، ولا هو من سنن الله في النفس الإنسانية.
أما الله رب العالمين فهو الذي لا يشغله شأن عن شأن. وهو القادر على أن يخاطب العقل والقلب معًا {الرَّحْمَنُ - عَلَّمَ الْقُرْآنَ - خَلَقَ الإِنْسَانَ - عَلَّمَهُ البَيَانَ} [الرحمن: 1 - 4].
وأن يمزج الحق والجمال معًا يلتقيان، وأن يخرج من بينهما شرابًا خالصًا سائغًا للشاربين، وهذا ما تجده في كتابه الكريم حيثما توجهت.
ألا تراه في فسحة قصصه وأخباره لا ينسى حق العقل من حكمة وعبرة؟
أوَلا تراه في معمعة براهينه وأحكامه لا ينسى حظ القلب من تشويق وترقيق، وتحذير وتنفير، وتهويل وتعجيب، وتبكيت وتأنيب؟ يبث ذلك في مطالع آياته ومقاطعها وتضاعيفها؟