الله عز وجل هو الرب الذي يُربِّي عباده ويتعاهدهم، ويمدهم بما يحتاجون إليه من سائر الإمدادات كالطعام والشراب والهواء والحفظ والرعاية {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ - يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:10، 11].
هذا الرب العظيم يحب عباده جميعًا ويريد لهم الخير والنجاح في الاختبار الذي نزلوا إلى الأرض لتأديته ... يريد لهم جميعًا دخول الجنة {وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة:221].
وكيف لا يكون الأمر كذلك وقد اختص الإنسان لنفسه، وكرمه على سائر خلقه {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70].
ولأنه سبحانه هو الذي خلق الإنسان ويعلم عنه أكثر مما يعلم هذا الإنسان عن نفسه {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] , فلقد علم - سبحانه- بحاجة هذا الإنسان إلى دواء يشفيه، ويبصره بطريق الهدى، ويُولد لديه الطاقة والعزيمة للسير في هذا الطريق، فهيأ له دواء فريدًا يصلح له حتى قيام الساعة ... فكان القرآن {تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:2].
والأمر اللافت للانتباه أن هناك العديد من الآيات القرآنية التي تؤكد لنا هذا المعنى وتخبرنا بأن القرآن «تنزيل من رب العالمين».
فرب العالمين، المربي للبشر جميعًا هو الذي أنزل لهم القرآن.
فالقرآن هو اختيار الله لعباده أجمعين {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57].
وفي هذا المعنى يقول سيد قطب - رحمه الله -:
إن هذه البشرية - وهي من صنع الله -لا تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يخرج من يده - سبحانه - وقد جعل في منهجه وحده مفاتيح كل مغلق، وشفاء كل داء: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] ... {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].
ولكن هذه البشرية لا تريد أن ترد الآلة إلى صانعها، ولا أن تذهب بالمريض إلى بارئه، ولا تسلك في أمر نفسها، وفي أمر إنسانيتها وفي أمر سعادتها أو شقوتها، ما تعودت أن تسلكه في أمر الأجهزة والآلات المادية الزهيدة التي تستخدمها في حاجاتها اليومية الصغيرة ... وهي تعلم أنها تستدعي لإصلاح الجهاز مهندس المصنع الذي صنع الجهاز ... ولكنها لا تطبق هذه القاعدة على الإنسان نفسه فترده إلى المصنع الذي منه خرج، ولا أن تستفتي المبدع الذي أنشأ هذا الجهاز الإنساني العظيم الكريم الدقيق اللطيف، الذي لا يعلم مساربه ومداخله إلا الذي أبدعه وأنشأه: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ - أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} [الملك: 13، 14] (?).
* * *