هذا التصور بلا شك سيحل محله التصور الصحيح عندما يتأكد الجميع أننا لسنا كبقية الأمم، ولن نتقدم بمثل ما تقدموا به، بل بالعودة إلى الله أولاً, ثم بالأخذ بالأسباب المادية المتاحة أمامنا ثانيًا.
- ومن فوائد البدء بالتربية الإيمانية والتركيز على صلاح الفرد, أنها ستعرِّضنا للتوفيق والتأييد الإلهي, فيتضاعف أثر الأسباب المادية بعد ذلك، كما حدث مع المسلمين الأوائل الذين برعوا في شتى فروع العلوم، وأقاموا صرح الحضارة الإسلامية العريقة، وما كان ذلك ليحدث لولا توفيق الله لهم، ومباركته لجهودهم.
ومن فوائدها كذلك: عدم التعلق بالأسباب، بل الاجتهاد في تحصيلها، ثم التعلق بالله وحده في تحصيل النتائج، وهذا من شأنه أن يسكب في الفرد السكينة والطمأنينة فلا يبدو فزعًا منزعجًا كلما قلَّ حجم الأسباب المتاحة أمامه {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا - إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا - وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا - إِلاَّ الْمُصَلِّينَ} [المعارج:19 - 22].
وخلاصة القول:
إن سر تقدمنا مرتبط بمدى علاقتنا بالله، وأننا لابد أن نجتهد في الأخذ بالأسباب المادية بالمفهوم الذي يسود بيننا الآن, ولكن بعد أن نجتهد في الأخذ بالأسباب المعنوية التي تُعني بصلاح الفرد كأساس للنجاح في كل الميادين.
فالأمة بحاجة إلى الربانيين أولاً ليكونوا بعد ذلك في المكان الذي يقيمهم الله فيه .. أما بدون رهبان الليل ... البكائين بالأسحار .. فلا أمل في تقدم ولا رفعة بل سيستمر الوضع القائم وسيزداد سوءًا.
ألم يقل سبحانه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ - إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:105، 106].
وبهذا المفهوم انتصر المسلمون الأوائل على أعدائهم ... تأمل معي ما قاله سعد بن أبي وقاص لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما وهو يصف له المجاهدين في معركة القادسية: « ... كانوا يُدَوُّون بالقرآن إذا جنَّ عليهم الليل كدويِّ النحل وهم آساد في النهار لا تشبههم الأسود، ولا يفضل من مضى منهم من بقى إلا بفضل الشهادة» (?).
وفي فتح أفريقية يصف عبد الله بن الزبير أحوال المقاتلين فيها فيقول:
واستشهد الله جل جلاله رجالاً من المسلمين، فبتنا وباتوا، وللمسلمين دوي كدوي النحل، وبات المشركون في ملاهيهم وخمورهم، فلما أصبحنا زحف بعضنا على بعض، فأفرغ الله علينا صبره، وأنزل علينا نصره، ففتحناها من آخر الليل. (?)
* * *