خامسًا: نحن مطالبون بالأخذ بالأسباب المادية بالقدر المتاح أمامنا لإقامة الستار الذي يتنزل من خلاله قدر الله {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] , ولسنا مطالبين أمام الله عز وجل بأكثر مما نقدر على تحصيله من تلك الأسباب.

وفي الوقت نفسه فقد طالبنا الله - عز وجل- بالأخذ بالأسباب المعنوية كلها, من توبة وتذلل وانكسار إليه، واستعانة به، وتوكل مطلق عليه، وليس لنا عذر في تركها، وكيفَ لا وهي متاحة أمامنا جميعًا، ولا يوجد ما يحول بيننا وبين الأخذ بها، وهذا هو ترتيب دعاء المجاهدين {وََمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:147].

تأمل معي قوله تعالى وهو يخاطب نبيه ويرشده إلى الاهتمام بالأسباب المعنوية، وأنها هي السبب الرئيسي لاستجلاب النصر: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ - إِن يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 159، 160].

سادسًا: لو افترضنا أن الأسباب المادية هي التي تحسم الصراع، وتعيد لنا مجدنا السليب، فالوضع القائم يؤكد أن أعداءنا لن يسمحوا لنا بامتلاكها بالقدر الذي يجعلنا نتكافأ معهم أو حتى نقترب منهم، فلقد أحكموا قبضتهم علينا من كل جانب، وظهر استعلاؤهم واستكبارهم وطغيانهم بصورة لم يسبق لها مثيل، ولا أمل لنا إلا في الله بأن يكون معنا فيحسم الصراع لصالحنا {وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} [الرعد:11].

فالله وحده هو القادر على أن يهزمهم رغم تفوقهم علينا ماديًا، وهو القادر على قلب ميزان القوة تمامًا، ولعل ما حدث في غزوتي بدر والأحزاب أكبر دليل على ذلك.

ولكن الله عز وجل لن يكون معنا إلا إذا فعلنا ما يرضيه من إخلاص له في التوجه والاستعانة، ومن طاعة لأوامره، ومن جهاد في سبيله وتضحية من أجله، ومن تقديم حبه على كل المحابّ الأخرى، ومن بذل الجهد والأخذ بالأسباب المادية المتاحة أمامنا {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55].

سابعًا: تاريخ أمتنا يؤكد هذه الحقيقة .. فأمة العرب التي كانت قبل الإسلام في مؤخرة الأمم لم تنتقل إلى مقدمتها بفضل امتلاكها للأسباب المادية وتفوقها بها على غيرها، بل لأنها دخلت في دائرة المعية والرضا الإلهي، فأوفى الله بعهده معها، وملَّكها الأرض ودحر الممالك الأخرى من فرس وروم, والذين كانوا يمتلكون من الأسباب المادية ما يفوق ما عند الأمة الإسلامية بأضعاف الأضعاف {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ} [التوبة:111].

ويزداد هذا الأمر تأكيدًا عندما ننظر إلى المعارك الإسلامية خاصة في العصور الأولى التي كانت الأمة فيها قريبة من الله ... تتمتع بحمايته ونصرته وكفايته.

ففي هذه المعارك –كبدر واليرموك والقادسية – كانت الأسباب المادية عند الكفار تفوق أضعاف أضعاف ما عند المسلمين، ومع ذلك انتصر المسلمون انتصارات باهرة.

لماذا؟!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015