هذه المعاملة الحسنة كانت تنفيذاً لأمر الدين، واتباعاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم- ففي الوقت الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهاجم عقائد اليهود والنصارى بسبب اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا ًمن دون الله، يحرمون ويحلّون1 - كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي بهما خيراً، ويزورهم، ويكرمهم، ويحسن إليهم، ويعود مرضاهم، ويأخذ منهم ويعطيهم، فاستقبل وفد نجران في مسجده وبحضرة المسلمين2. وأجرى الصدقة على أهل بيت من اليهود3، ورهن درعه عند أبي الشحن اليهودي4، وكان بوسعه أن يقترض من أصحابه، ولكَنه أراد أن يعلم أمته، ووقف لجنازة يهودي مرت به5. وكل هذه من وسائل الدعوة التي تستهوي القلوب.
وقد سار خلفاؤه (صلى الله عليه وسلم) على نهجه، وعلى هديه، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوصي سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ويأمره بالترفق في جيش المسلمين، ولا ينس أثناء ذلك أن يوصي بأهل الذمة قائلا:
"ترفق بالمسلمين في سيرهم، ولا تجشّمهم عسيراً يتعبهم، ولا تقصر بهم عن منزل يرفق بهم، حتى يبلغوا عدوهم، والسفر لم ينقص من قوتهم، فإنهم سائرون إلى عدو مقيم، حامي الأنفس والكراع. وأقم بمن معك في كل جمعة يوما ًوليلة، حتى تكون لهم راحة، يحيون بها أنفسهم، ويربون أسلحتهم، وأمتعتهم، ونحّ منازلهم عن قرى أهل الصلح والذمة، فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق به، ولا يرزأ أحداً من أهلها شيء، فإن لهم حرمة وذمة، ابتليتم بالوفاء بها، كما ابتلوا بالصبر عليها، فما صبروا لكم، فتولوهم خيراً، ولا تنتصر على أهل الحرب بظلم أهل الصلح ... "6.
ولما طعن أحد أهل الذمة (وهو فيروز الديلمي- أبو لؤلؤة المجوسي النصراني) عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالتآمر مع اليهود والنصارى7، قال وهو في النزع الأخير:
"أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيراً، أن يوفي بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، وألا يكلفهم فوق طاقتهم"8.