وربما كانت المحن التى توالت على حلب وتعرّضها لغزو التتار على يد هولاكو سنة 658، وانقراض دولة الأيوبيين بها، وتعرّضها لغزو التتار مرة أخرى سنة 801، وما تبع ذلك من تخريب مدارسها وإبادة مكاتبها وتقويض قلاعها- أضاعت كتب القفطى كما ضاعت كتب الجاحظ وأبى العلاء وغيرهما من أعلام الإسلام، وكما ضاعت الكتب التى كانت تزخر بها مكاتب بغداد ودمشق والقاهرة والأندلس وصقليّة. ولو وصلت إلينا هذه الكتب لوصل إلينا علم وافر، وذخائر ثمينة؛ هيهات أن تعوّض على وجه الزمان.
وكتاب إنباه الرواة يصوّر ناحية من نواحى التأليف ظهرت فى القرنين السادس والسابع تصويرا صحيحا، فقد تميز هذا العصر بالتوسع فى المعاجم التاريخية؛ نتيجة لكثرة المعارف، وتنوّع الفنون، ووفرة الكتب، واتصال العلماء بعضهم ببعض، وتوفر ثقافة علمية واسعة تنتظم ما بين الأندلس غربا إلى آخر حدود فارس فى شرقا.
وقد تميزت هذه المعاجم بجمع الحقائق المنثورة فى تضاعيف الكتب، وتنسيق المعارف التى وردت على ألسنة الرواة، وحشد المشاهد التى وقعت للعلماء حول موضوعات خاصة مرتبة على حسب حروف المعجم، حرصا على الاستقراء والحصر، وقصدا إلى تيسير الإفادة والنفع، مع خلوّها من الإسناد، كما كان ذلك متعارفا فيما قبلها من الكتب. فكان كتاب الأنساب للسمعانى، واللباب لابن الأثير، ومعجم البلدان ومعجم الأدباء لياقوت، وإنباه الرواة وأخبار الحكماء للقفطى، وعيون الأنباء لابن أصيبعة، ووفيات الأعيان لابن خلكان.